لكن الذي لا يذكرونه بشكل واضح هو غياب الممانعة المجتمعية أو قُل: ضعف الممانعة المجتمعية.
لأن الممانعة المجتمعية لو كُتِب لها الوجود لاستعصت القِيَمُ على كلِ الأسباب التي ذكرها المؤرخون أو لم يذكروها، لكن المؤسف هو أن الممانعة المجتمعية كانت ضعيفة جداً الأمر الذي جعل تلك العوامل تتضافر في تغيير صورة المجتمع المسلم ثقافيا وأخلاقيا بشكل قليل النظير في سرعته.
تعريف الممانعة المجتمعية:
وهنا يأتي دور تعريف الممانعة المجتمعية لنستكشف كيف كان ضعفها أو انعدامها سبباً في تغير صورة المجتمعات الإسلامية وحصول هذا التناقض الواضح بين حقيقة الإسلام وصورة المجتمع المسلم.
فهي: اقتصار المجتمع على دينه وبيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته في إنتاج آدابه وأخلاقه ورؤاه وعباداته وعاداته وأعرافه.
ويلزم من هذا الاقتصار: رفض المجتمع تبني كل أدب أو رؤية أو خُلُق أو عبادة أو عادة أو عرف ليس نتاجا لدينه وبيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته.
وهل يعني ذلك رفض مطلق التأثر بالآخرين؟
الجواب: أن المجتمع حين يكون متفاعلا مع الأصول المكونة لقيمه بشكلٍ صحيح فإنه سيكون تلقائياً أكثر تفاعلاً مع هذه الأصول في تصفية ما يرد عليه من قيم خارجة عنه, بل إنه سوف يمارس بطريقة تلقائية أيضا ما يشبه أن نسميه توطين القيم الواردة عليه بحيث تدخل في سياق هيئته الاجتماعية بشكل لا يُشير أبدً إلى جذورها التاريخية.
أهمية الممانعة:
ترجع أهمية الممانعة المجتمعية إلى كونها الوسيلة الأضمن والأقوى لحفظ الهيئة الاجتماعية للأمة من أن تضمحل بعامل استجلاب قِيَمٍ لم تصنعها الأمةُ ولم تُنتِجها بطريق التفاعل بين المجتمع وبين الأصول المكونة لقيمه وهي: دينه وبيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته.
وكذلك هي الوسيلة الأضمن لحفظ المجتمع نفسه من أن ينتج قِيَمَاً لم يتفاعل فيها الإنسان مع كامل الأصول التي تبنى عليها القيم.
فالأمر الثاني من خلال مراجعة تاريخ الأمة هو سبب للأمر الأول فإن إنتاج قيمٍ غيرِ معروضة على الدين أولاً ثم على جميع أصول القيم المجتمعية التي تقدم ذكرها سوف يُؤَدِّي حتماً إلى رضوخ المجتمع للقِيَم المستوردة، وذلك لأن بناءه القِيَمِي حينذاك يكون قد اختُرِق وبقوة، وهذا ما حدث فعلا في عالمنا الإسلامي.
نظرة في تاريخ القيم عند المسلمين:
فإننا حين نسبُر تاريخ الأخلاق والأفكار عند المسلمين نجد أن ضعف المجتمع في جانب ما أسميناه في بداية هذه الورقة بِقِيَمِ المجتمع قد بدأت بوادره في الدبيب سريعاً، حيث رأينا إرهاصات التغير الفكري والقِيَمِي مبكراً لدى المسلمين بشكل غير متناسب مع القوة التي بدأ بها الإسلام.
وحين نقرأ كتاباً أُلِّفَ في وقت مبكر من تاريخ الإسلام وهو كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (ت٣٢٤) فإنه ليصيبنا الذهول من كثرة النزاعات العقدية بين المسلمين في وقت مبكر.
وإذا انتقلنا سريعاً إلى العصر الحديث وطوالعه نجد أيضا أن القِيَم الاجتماعية الدخيلة قد صبغت المجتمع المسلم بشكل سريع لا يتناسب أبداً مع ما في الإسلام من دعوات متكررة بالالتزام والتمسك.
ولم تكن مشكلة المسلمين فقط مع القيم الوافدة، بل أيضا مع القيم التي تشكلت خطأ، أي دون تفاعل كامل وصحيح مع ما أسميناه أصول القيم في المجتمع المسلم.