فتنحية فهم الصحابة الكرام للكتاب والسنة منذ وقت مبكر عن الحكم على القيم والرؤى وغيرها لدى عدد من البيئات الاجتماعية الإسلامية كالبيئة الخارجية والبيئة المتشيعة أدى إلى نشوء الابتداع في الدين، وتوالت البِدَعُ ابتداء من تغير الرؤى والتصورات للدين والكون والحياة على هيئة آراء في القضاء والقدر والحكم والعدل وصفات الباري عز وجل، ودون انتهاء إلى ما تجاوز العقيدة إلى العبادات فلم تنته عند زيادة عبادات في الدين لم يأذن بها الله تعالى بل وصلت بالناس إلى الإشراك بالله تعالى، دون أن يشعروا وذلك بصرف أشياء من العبادة لغير وجهه سبحانه وتعالى، واستمر هذا الوضع في تزايد حتى غلبت تلك البدع في ظهورها وسيطرتها على صحيحَ التصورات والعبادات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله.
أدى ذلك إلى رواج الخرافة بين المسلين ثم إلباسها لباس الدين حتى أصبحت الكهانة والعرافة والسحر وهي من المحرمات نصا تسمى بالسيادة ويسمى أصحابها بالأسياد أو أهل الله، ويُعطون عند الناس، وربما عند الكبراء منهم منزلة لا يحصل عليها الكثير من أكابر العلماء.
فلم تكن المشكلة آنذاك قِيَمَاً وافدة -وإن كان فيها قدرٌ لا بأس به من الوافدة- بل كانت المشكلة في تكوين قيم ومفاهيم من داخل الأمة ولكن الأمة كونتها بمعزِلٍ عن الأصول المفترضة للقيم في الأمة المسلمة وبخاصة الدين بمصدريه العظيمين الكتاب والسنة.
فما الذي حدث أخيراً؟
الذي حدث: أن المجتمع المسلم كان منشغلاً بالقِيم الاجتماعية التي نسجها لنفسه دون إجراء التفاعل الصحيح مع أصوله، أي أنه كان يعيش تناقضاً كبيراً جداً بين قيمه المصطنعة وبين جذوره التي ترفض هذه القيم الأمر الذي أحدث جهلاً وضعفا كبيراً في النفسية المسلمة وهو ما سهل الطريق أمام عادات الغرب وتقاليده ورؤاه لتصبغ المجتمعات المسلمة وتَطبَعَهَا بِطَابَعِهَا.
هنالك بدأت عناصر الهيئةِ الغريبةِ السائدةِ في المجتمع الغربي تنتقل بسرعة عجيبة إلى العالم الإسلامي ويتقبلها المجتمع المسلم بشكل ملفت للنظر، فالغرب المستعمر لم يحضر بكامله في بلاد المسلمين وإنما أرسل قليلا من أبنائه على هيئة عسكريين في الغالب وفي أحيان على هيئة علماء ومستشرقين وعمال، ومع كل هذا يظلون قلة قليلة، لا يستطيعون عند حساب المسألة حسابا منطقياً أن يغيروا وجه مجتمعٍ عريقٍ في قِيمه وحضارته بهذه الصورة السريعة، لكن الأمر الذي سهل لقيم الحضارة الغربية الولوج إلى المجتمع المسلم وصبغه بصبغتها كونُ المجتمعِ لم يفعل سوى أن استبدل قِيَماً اجتماعيةً مناقضة لجذوره، مستوردة من الغرب، بقيم أخرى مناقضة لتلك الجذور أيضا لكنه صنعها بنفسه، أي أن ما صنعه المجتمع إنما هو استبدال قيم مناقضة بقيم أخرى لا تقل عنها مناقضة، وربما سَرَّع في هذا الاستبدال أن يكون قد وَجَدَ في القِيَمِ الجديدة من احترام العقل والاستمتاع بالحياة في إطار من العلم والهيمنة مالم يجده في هيئته الأولى التي صنعها بنفسه بعيداً عن أصوله وكانت هيئةً مُعتِمَةً تحكمها الخرافة والجهل.
ما الذي حدث حتى تتناقض جذور المجتمع المسلم مع هيئته الاجتماعية بسرعة لا تتناسب مع قوة التشريع الذي أسند إليه، سواء أكان ذلك التناقض بسبب تغيير فكري وأخلاقي من داخل المجتمع كما هو الحال في العصور الأولى والوسطى من تاريخ المسلمين أم باستيراد هيئات اجتماعية غريبة على الأمة لتكون هي الصورة المعبرة عنها.
الذي حدث فيما يظهر لي هو ضعف الممانعة المجتمعية في كلا الحالتين.