للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالمجتمع تخلى عن مسؤوليته في حفظ أخلاقه وعباداته وعاداته وتصوراته عن طريق عرضها على دينه وتاريخه الخاص به وبيئته التي يتحرك خلالها ومقدراته التي يعيش بها ولغته التي يتحدث بها، تخلى عن مسؤوليته تلك، وقَبِل التمرد على فهم الصحابة للدين من وقت مبكر في تاريخه فبدأت تنشأ القيم والأفكار بمعزل عن الدين وعن خصوصية التاريخ والبيئة حتى وصل الإسلام في بلاده إلى مرحلة الغربة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبا للغرباء))

المجتمع لم يُقَاوِم مظاهرَ الترفِ والاستخفافِ بالمعاصي منذ بواكير الدولة المروانية حيث بدأت هذه البوادر من مأرز الإسلام من مكة والمدينة، ولم يقاوم جاهلية الأدب المتمثلة في نقائض جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم، ولم يقاوم حركة الأدب المتهتك على يد عمر بن أبي ربيعة والعرجي ونصيب والأحوص ولم يقاوم الفتنة بين النزارية واليمانية.

ولم يقاوم بدعة الإرجاء والجبر وتكفير الصحابة الكرام والصد عن سبيلهم.

كما لم يقاوم بدعتي النصب والتشيع على حد سواء.

كل هذه المشكلات التي لا يقرها الإسلام ظهرت جلية في المائة الأولى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكانت مقاومتها تتلخص في فتاوى للعلماء العظماء في ذلك الوقت لكن هذه الفتاوى لم تكن نتائجها تظهر على هيئة استجابة سريعة من المجتمع للوقوف ضد هذه الانحرافات.

والسبب في ذلك - في زعمي - هو أن تلك المشكلات كانت إما قليلة الظهور بحكم تباعد الأمكنة بين المسلمين وضعف انتشار حدوث المنكر، وإما قليلة الأثر كبعض البدع العقدية التي تقدم ذكرها.

لذلك لم تكن تشغل بال المجتمع المسلم كثيراً وهو ينظر إلى واقعه الذي يطغى فيه الخير وحب السنة وتوقير العلماء.

يضاف إلى ذلك: كثرة حديثي الإسلام من الأمم الأخرى وقلة اللذين عاصروا الرسالة من فئام الناس.

ولعل الأسوأ من أسباب ضعف الممانعة في بعد الثلث الأول من تاريخ الإسلام: أن المجتمع المسلم قد انشغل عن مقاومة هذه الظواهر بالفتن الأعظم والتي طالت الدماء والتي يَعُدُّها المؤرخون سبباً في نشوء كثير من الأفكار الغريبة عن منهج الصحابة كفتنة القول بالقدر والنصب والتكفير والتي نشأت كردات فعل من بعض من لم يتمثل منهج الصحابة الكرام على ما شجر بينهم من نزاع وما حصل بعد الخلافة الراشدة من ملك عضوض.

وعدم السرعة في الاستجابة من المجتمع آنذاك لمحق المنكر في مهده، مهما بررنا له كان هو الغرسة الأولى للانحراف بالأمة الإسلامية عن حقيقة دينها، فقد تطورت بدعة القدر والإرجاء إلى مذاهب أصبحت هي السائدة بين المسلمين كالجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية والماتريدية، وتطورت بدعة التشيع ليخرج منها مذاهب شتى لا حصر لها وكذلك ما كان من أمر التصوف الذي نتج عنه القول بالحلول والاتحاد ووحدة الأديان.

ولا شك أن لهذا الضعف في الممانعة في تلك العصور المتقدمة أسبابه المختلفة التي يمكن للمؤرخين دراستها لكن الذي يجب أن نستفيده منها كمرحلة تاريخية هو خطر الركون إلى ظاهر المجتمع الجيد أو إلى الدولة القائمة بشرع الله تعالى لمنع تسرب الخلل في الهيئة المجتمعية بل يجب أن نركز على واجب الأمة في التنبه إلى مسؤوليتها في نفي الخلل عنها وهو ما يسمى بالممانعة المجتمعية.

أما عصرنا الحديث

فقد كان بُعدُ المجتمعات المسلمة فيه عن تحمل مسؤوليتها في مقاومة تغيير هيئته الاجتماعية أظهر من أن يُستدل عليه، يدل على ذلك نظرةٌ دقيقة في التاريخ الحديث للمجتمعات الإسلامية لتجد أن شيوع القِيَمِ المستوردة فيها لم يستغرق من الزمن ما يمكن أن يتناسب مع عظمة الإسلام الذي تدين به تلك الشعوب.

<<  <  ج: ص:  >  >>