للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس أمامنا إلا أن نقبل كل الأسباب التي يُقدمها المؤرخون لهذا التدهور السريع ولكن الذي لا ينبغي الغفلة عنه هو أن الممانعة المجتمعية يزداد بؤسهاُ في أكثر الدول الإسلامية استجابة لهذه التغييرات.

من هذه الإلماحة التاريخية يمكن أن نُحَمِّل الممانعة المجتمعية مسؤولية الحفاظ على هوية الأمة المسلمة وهو ما ينبغي أن يتعلمه المسلمون، فالحفاظ على القيم ليس مسؤلية الدول وحدها وليس مسؤلية العلماء وحدهم لكنه مسؤولية المجتمع بأسره بجميع أفراده وليس العلماء ورجال الدولة إلا أعضاء في بناء المجتمع.

وسوف أتحدث عن كيفية دعم الممانعة المجتمعية والموقع الصحيح فيها للدولة والعلماء بعد أن أجيب عن سؤال مفترض، وهو

هل نادى الإسلام بمثل هذه الممانعة المجتمعية؟

قطعاً، المصطلح جديد ولا أعلم أول من أبرزه، كما أنني أظن أن الهدف من إبرازه كان نقد ممانعة المجتمع ضد القيم الوافدة، وهي النبرةُ التي لا نزال نستمع إليها من كثير من الكتاب ومن بعض المحسوبين على طلب العلم الشرعي أيضا، مع تباينٍ كبيرٍ بين مرادهم من الممانعة ومرادِنا منها، لكن ما نقصده بالممانعة وهو ما لخصته في التعريف المقترح لها أجد أن آيات الكتاب العظيم وكثير من التشريعات الإسلامية تصب في صالح الدعوة إليه، أي الدعوة إلى أن يكون المجتمع المسلم منفرداً ببناء قيمه التي تتلخص في آدابه وأخلاقه ورؤاه وعباداته وعاداته وأعرافه. وأن تكون تلك القِيم مستمدة من دينه الذي لا بد أن يكون مصدراً وحاكماً، وكذلك بيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته.

ومن ذلك:

أولا: ترسيخ مفهوم الخيرية والفضل على جميع الأمم لدى المسلمين وأن مصدر هذه الخيرية إنما هو الالتزام بالدين وتعاليمه وليس له مصدر آخر عِرقي أو إقليمي، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: ١٤٣] , قال المفسرون: وسطا, أي: خياراُ وعدولا, فالمجتمع الذي يشعر بخيريته على الأمم جميعها، واعتلائه عليها بمنصب الشهادة عليها يوم القيامة لا يمكن أن يكون مجتمعا متهافتاً إلى ما تنتجه تلك الأمم من قِيم مخالفة لما لديه، وبعكس ذلك حين يغيب الشعور بالخيرية عن مجموع المجتمع فإن الذي يحل محله في ظروف الضعف الساسي والاقتصادي والعسكري هو الشعور بالنقص والهوان أمام تلك الأمم، وهو ما يجعل الرؤوس والصدور والبيوت مُشرَعةً أمام كل تغيير يأتيها من قبل هذه الأمة الغالبة.

وكذلك قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:١١٠]

وهذه الآية ربطت بين التأكيد على خيرية هذه الأمة وبين أسلوب من أساليب الممانعة المجتمعية وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان هذا الأسلوب هو التكليف الذي تحقق الأمة به خَيرِيَّتَها على الأرض بصورة عملية، كما أن الإيمان بالله يحقق خيريتها بصورة اعتقادية.

وهذا الشعور بالخيرية نجده أشد ما يكون ضآلة لدى المسلمين في الأوقات التي يكثر فيها تهافتهم على قِيم غيرهم من الأمم التي فضلهم الله تعالى عليها، الأمر الذي يؤكد على هذا الارتباط الوثيق بين شعور الأمة بخيريتها ومناعة قِيَمِها.

<<  <  ج: ص:  >  >>