من حجج الحكومات المستبدة بأكثريتها باسم الديمقراطية في منع النقاب أو غطاء الوجه ضرورة التعرف على الشخصية زعموا، وذلك لدواع أمنية.
ومن العجيب أن يبدي قناعته بهذه الدعوى أو يقرها صامتاً عنها بعض المغفلين الذين دأبوا يشنعون على أهل العلم الذين يعتبرون الذرائع الحقيقية، فينبذونهم بالنعوت والألقاب، ويتهمونهم بالتضييق والتعنيت، أما تصرفات الحكومات الغربية من نحو الفرنسية والبلجيكية فتلك هي الحكمة وذلك هو الفقه الذرائعي المعتبر!
مع أن أهل العلم المحققين لا يحرمون من الذرائع إلاّ ما كان قطعي الإفضاء إلى المحرم أو أغلبيه أو كان محتملاً لكن الطبع متقاض لإفضائه، وأما ما يفضي أحياناً فحكمه بحسب المصلحة من ذلك الفعل. أما هؤلاء المتبلجكون والمتفرنسون فيسدون من ذرائع العفة الغالبة أظهرها، ويمنعون من ذرائع المفسدة المتوهمة واحدة من أسمجها!
ولو تساءلنا كم من جريمة في فرنسا أو بلجيكا قد ارتكبت؟ وكم تلك التي كان النقاب سبباً فيها لعلمنا تفاهة الذريعة المدعاة!
إن من الطبعي أن يدعي خبيث أن النقاب أو غطاء الوجه يساعد على ارتكاب الجريمة، ويمنع من التعرف على الجاني، لكن من الغباوة أن نعتقد بأن المجرم إذا جاء يخطط لتنفيذ جريمته فسوف يُعِدُّ الغطوةَ ليعصب وجهه، والجلباب ليَشُلَّ حركته! ربما غاب هذا عن غربي لم يمارس هذا اللباس، وغاية ما يتخيله عنه ما يراه في أفلام النينجا! لكننا معاشر الشرقيين ندرك أن هذا اللباس يقيد حركة المرأة نوعاً ما بحيث لا يدع لها من المجال ما يحتاجه اللص أو المجرم في حركاته ووثباته وركضاته وانثناءاته! والاحتجاج لمنع غطاء الوجه بدعوى الدوافع الأمنية في نظري يشبه الاحتجاج بنفس الدعوى من أجل منع لبس الكعب العالي المُعيقِ عن الحركة! فمن يدري ربما أخرجته وضربت خصيمتها به في يافوخها فكان أمضى من سكين، وربما قذفت به في وجه آخر فكان أنفذ من رصاصة! نعم إنها ذريعة واردة بمنطق فقهاء فرنسا ومشرعي بلجيكا! وإني لا آمن أن تكون نهاية الخطوات المقبلة منع المرأة من الخروج بسوى البكيني في تلك الدول منعاً لذريعة ارتداء الحزام الناسف أدنى الثياب، وليتبين أمر الحوامل من الانتحاريات! إنه فقه مشرعي الكفر فلا عجب! وأعجب منه كلام بعض المستغربات وقالوا: لا تثيروا ضجة ومعركة في قضية لا تسوى -وقاتل الله التأويل الذي أداهم إلى أن بعض أوامر الله لا تسوى- فهؤلاء ربما أفاقوا إذا قررت تلك المجتمعات الخطوة التالية وهي منع الخمار أو غطاء الرأس مطلقاً!
وإذا بدت لك سخافة الذريعة التي يدافع عنها بعض مناهضي قاعدة سد الذرائع في الإسلام مع موافقتها المنقول والمعقول، فاعلم أن للقوم حجة أخرى وهي المنع من غطاء الوجه من أجل التعرف على المجرمين والفارين من وجه العدالة .. ومع أني أعتقد أن هذه مجرد مراوغة لا حقيقة لها، لأن هذا الزي في تلك البلاد مدعاة لاسترعاء الانتباه وتتبع صاحبه من أين يخرج وإلى أين يذهب، وماذا يفعل، لا صرف الأنظار عنه وغض البصر عند مروره! ولأن صويحباته قلة معروفة في مجتمعاتها، ولو أن مجرماً فرنسياً لبس العباية والنقاب ثم خرج لقفش عند عتبة بابه، ولأن التحقق عند الريبة من الشخصية المنقبة ممكن، ولأن الأجدر في التنكر استخدام أساليب أخرى يغير فيها المجرمون خلق الله، بل الأمر لا يستدعي ذلك فعندهم من المساحيق والأشعر المستعارة والأصباغ والأقنعة والنظارات الشمسية ما يباع مشاعاً وهو كفيل بأن يؤدي للمجرم تلك الوظيفة بكل يسر، مع كل ذلك فلو فرضناها دعوى هم صادقون فيها من جهة قصدهم، لحق لنا أن نُبَشِّع بمقصدهم ونيَّتهم المنطوية على اتهام الأبرياء، فعجباً لدولٍ ديمقراطيةٍ البريئةُ فيها متهمةٌ مطالبة بفعل ما يثبت براءتها! كأنهم يقولون لتلك المنقبة المحتجبة أنت متهمة بأنك (جاك مسيرين) فأثبتي خلاف ذلك! والأدهى أنها إذا أثبتت أنها فلانة بنت فلان فعليها حينئذ أن تدفع غرامة! فهل عهدتم دولةً مستبدةً في شرقنا البريئات المنقبات فيها متهمات حتى يدفعن بالبراءة ويبذلن بعد ذلك غرامة؟ لا جرم فقومنا أبرياء من ديكتاتورية الأكثرية في النظم الديمقراطية! كما أن شعوبنا برءاء من التسلط على الأقليات بالأهواء، أما في فرنسا فتوشك ألا تأمن منقبة بعد قليل إذا هي سارت في حدائق بولوني أن يقوم ثلة من العراة الذين يحق لهم نظاماً التسكع هنالك بالاحتساب النظامي عليها عبر الجوال، ليجيء مقلعاً (جيب) هيئة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف الفرنسية - أو سمِّه ما شئت - متلافيا أجساد العراة، ليعتقل المنقبة!