[مناهج الإسلاميين في مقاومة التغريب]
إبراهيم السكران
أصبح هناك اليوم منهجان واضحان لصيانة الهوية ومقاومة تهديدات التغريب, وإذا شئنا أن نتجاوز المفاهيم الثقافية إلى جوهر الإشكالية في عبارة بسيطة، فإن الفتنة التي تعرض للشباب المسلم اليوم هي "استعظام دنيا الكفار", والمراد أن هذه الفتنة المعاصرة خلقت منهجين لمقاومتهما, كلاهما يحاولان الإجابة على إشكالية "مقاومة تهديدات التغريب" وهذان المنهجان:
أولهما: منهج "تعظيم الدنيا" ويستهدف هذا المنهج إعادة عرض الوحي في صورة المعظِّم لشأن عمران الدنيا, وإعادة عرض التراث باعتباره ينشد الحضارة والمدنية الدنيوية, وهدف هذا المنهج من إعادة رسم المشهد بهذه الطريقة "تلافي الاصطدام بين سطوة الحضارة والدين" حتى لا يتخلى الناس عن عقيدتهم وإيمانهم وتراثهم إذا رأوها لا تدفع باتجاه الحضارة الدنيوية, وهذا المنهج أخذ به بعض المنتسبين للُّغة الدعوية الحديثة, ولا يشك الإنسان أن كثيراً منهم أخذ بهذا المنهج بحسن قصد بهدف تقريب الإسلام للناس وخصوصاً للطبقات المثقفة بالثقافة الغربية المعاصرة, حيث يردد كثيراً أصحاب هذا الاتجاه (إن آخر ما يمكن أن نقاوم به التغريب هو التزهيد في الدنيا).
وثانيهما: منهج "تعظيم العبودية" ويستهدف هذا المنهج تربية الناس -والشباب خصوصاً- على ما تواتر عليه القرآن والسنة وفقه القرون المفضلة من "تعليق القلوب بالآخرة", والاستعلاء على حطام الدنيا وزهرتها, واعتبارها مجرد وسيلة نحرص عليها لننصر مبدأنا لا لكونها عظيمة في ذاتها, وترسيخ هذا المعنى في النفوس.
فإذا امتلأ قلب الشاب المسلم بمعاني "تعظيم الآخرة ووسيلية الدنيا" أصبحت القرون المفضلة في وعيه أرقى المجتمعات وأشرفها بما بلغته من تنوير العلوم الإلهية ومنازل العبودية ثم الاجتهاد في تحصيل وسائلها الدنيوية مع عدم الركون إليها, وأصبح المجتمع الغربي في نظره حالة من الانحطاط والظلامية بسبب ما سُلِبه من تنوير العلوم الإلهية والإعراض عن الله, والاستغراق في تدبير المعاش الحاضر وعلم ظاهر الحياة والدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون, وهذا المنهج أخذ به جماهير الإسلاميين اليوم ولله الحمد.
والواقع أنه عند التأمل والتدبر يكتشف الإنسان -بكل بداهة- أن المنهج الثاني هو المنهج الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم, وربّى أصحابه عليه.
فإن أصحاب النبي رضوان الله عليهم لم يستطيعوا أن يدكوا حضارة فارس والروم إلا حين زكى النبي صلى الله عليه وسلم نفوسهم وربى فيهم تعظيم الآخرة ووسيلية الدنيا, والشموخ بالعلوم الإلهية, فرباهم على ذلك بكل حدث يمرون به, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغل الأحداث والوقائع لترسيخ معنى إرادة الله والدار الآخرة في نفوس أصحابه والاستعلاء على مظاهر الدنيا واعتبارها مجرد وسيلة لبناء المستقبل الأخروي.
والشواهد والمستندات التي تؤكد أن هذا المنهج هو "المنهج النبوي" في مقاومة تهديدات الهوية كثيرة جداً, بل أكثرها يعرفها القارئ الكريم, ومنها على سبيل المثال أنه حين مر النبي صلى الله عليه وسلم بالجدي الأسك استغل الحادثة وربى في أصحابه حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة, فكما روى مسلم من حديث جابر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية, والناس كنفته, فمر بجدي أسك ميت, فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء, وما نصنع به. قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم).