وحين أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية, أعاد ذات الدرس عليهم, فكما روى البخاري عن البراء بن عازب قال: (أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرقة من حرير, فجعل الناس يتداولونها بينهم ويعجبون من حسنها ولينها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون منها؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة خير منها).
وحين تضايق عمر من بذاذة بيت رسول الله بالنسبة إلى قصور الحضارات الأخرى, رباه النبي صلى الله عليه وسلم بحزم على هذا المعنى, حيث روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب أنه قال: (رفعت رأسي في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أُهباً ثلاثة, فلما رأيت أثر الحصير في جنبه قلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله, فاستوى النبي جالسا ثم قال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا»).
هذا الحوار العظيم بين النبي وعمر من أدق المشاهد التي تحكم بين المنهجين السابقين وتفصل فيهما, فحين عبَّر عمر عن تألمه وهو يقارن "المظاهر الدنيوية" في الحضارة الفارسية والرومية بمحدودية المجتمع الإسلامي, لم يعبر له صلى الله عليه وسلم عن "تعظيم الدنيا" ليداري سطوة الحضارة عليه, فلم يقل له النبي إن لدينا نصوصاً كثيرة في فضل عمران الدنيا ونحن نسعى لبنائها أيضاً.
بل بالعكس من ذلك تماماً, فقد حذره من أن يغتر بتلك المظاهر المدنية الدنيوية, وأعاد تذكيره بقطب رحى الإسلام "مركزية الآخرة", وخاطبه بعبارة شديدة فيها استعظام لموقف عمر, فقال له: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)
وفي رواية أخرى في الصحيحين أن النبي قال له: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟).
هذه هي التربية النبوية, وهذا هو منهج النبوة في مقاومة سطوة الحضارات الأخرى, أما إذا أكدنا للمتسائل عظمة الدنيا فقد أججنا دوافع الانبهار أصلاً, وصببنا الزيت على النار, ذلك أن استعظام دنيا الكفار لا يعالج بـ"تعظيم الدنيا", لأنه وبكل بساطة لا يعالج الأثر السلبي بتكريس دوافعه! فهل عالج القرآن الركون بتأكيد احترام الإسلام للدعة؟ وهل عالج القرآن التثاقل إلى الأرض عن الجهاد بتأكيد احترام الإسلام لجبلَّة كراهية القتال؟ وتأمل في كل الآثار السلبية لا تجد القرآن يعالجها بتأكيد دوافعها, وهذا أمر ظاهر.
وإنما يحسن بيان "أهمية الدنيا" في حالتين فقط:
إما أن يوجد مثقف يظن أن الإسلام يدعو للرهبنة وتحريم الطيبات والرفاه, فهذا يبين له أن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين من أكل الطيبات, وأن الله لم يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق, وأنه من أَخذ المال بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع, وأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه, ونحو ذلك.
وأما الحالة الثانية: فهي أن يوجد شاب متحمس يظن أن العمل للإسلام لا يستحق تحصيل الأسباب والسعي فيها وأنه ليس ثمة سنن كونية للنجاح الإصلاحي, فهذا يبين له أمر الله بإعداد القوة واتخاذ الأسباب, وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وأن النبي ظاهر بين درعين, وقال (ألا إن القوة الرمي) , وأن قوم شعيب قالوا: {ولولا رهطك لرجمناك} , ونحو ذلك.