فمثل هذين الحالين -وإن كانا ليسا شائعين بحمد الله- يحسن فيهما بيان أهمية الدنيا لا يخالف في ذلك أحد من فقهاء الإسلام, أما تحويل الخطاب الديني كله إلى شحن قلوب الناس والشباب المسلم بتعظيم الدنيا والمغالاة في قيمة المدنية المادية وإقرار كونها المعيار في تقييم المجتمعات والشخصيات فهذا انحراف مصادم للمنهج القرآني والتزكية النبوية وهدي القرون المفضلة.
ومما يؤكد ما سبق أنه حين جاءت الجزية من البحرين صلى بعض الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم متعرضين له، علّه أن يصيبهم من المال، فأعاد النبي درس الدنيا/الآخرة فكما روى البخاري في الصحيح عن عمرو بن عوف الأنصاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي, فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين, فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم, فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ قالوا أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم, فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم).
وهذا المعنى وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الفقر على أمته, بل كان يخشى عليهم المنافسة في شؤون الدنيا, أعاده عليهم بحروفه, وذلك حين صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين, كما روى البخاري في الصحيح عن عقبة بن عامر قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات, ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط, وأنا عليكم شهيد, وإن موعدكم الحوض, وإني لأنظر إليه من مقامي هذا, وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها. قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقارن بين قيمة الدنيا وقيمة الآخرة, فكما قارن بين مناديل سعد في الجنة والدنيا, فإنه قال كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها, ولقاب قوس أحدكم من الجنة, أو موضع قيد يعني سوطه, خير من الدنيا وما فيها).
وقد كان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على أن الرفاه التام إنما هو في الآخرة, وأن الكفار هم الذين يتتبعون ألوان الرفاه في الدنيا كما نبههم على ذلك حين حرَّم الحرير وآنية الذهب فقال لهم: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها, فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) خرجاه من حديث حذيفة.
بل تأمل في صورة الدنيا كلها كيف ضرب لها النبي صلى عليه وسلم مثلاً فريداً فقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر).
وضرب لها مثلاً آخر فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء).