ومن وجه آخر لم يكتف الخطاب القرآني ببيان وسيلية الدنيا وخطر تعظيمها فقط, بل كانت آيات القرآن تتنزَّل على مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوالية في وقائع متتابعة تؤكد مرة بعد أخرى على تعميق الشعور بفرادة المجتمع المسلم وعلوهم على كل قوى المجتمعات الدنيوية الكافرة, انظر كيف تزكيهم آيات القرآن بهذا المعنى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩]
والخطاب في هذه الآية ليس لرسول الله بل هو لـ"المؤمنين" في مجتمع الصحابة ومن بعدهم, كم هي دلالة عميقة أن تكون هذه الآية نزلت أصلاً في لحظة "انكسار عسكري" أمام قوى الكفر, ومع ذلك يؤكد لهم تعالى أنهم "الأعلون", بل ولا يعتبر هذا المعنى مجرد "تشريف" بل هو "عقيدة" ولذلك ربط التمسك بها بصحة الإيمان فقال: {إن كنتم مؤمنين}.
هذا المعنى لـ"علو الإيمان" لا يعقله التغريبيون المعاصرون, ولذلك إذا رأوا بعض الدول الإسلامية المستضعفة تتساقط تحت قوى الإمبريالية الغربية, يرددون: إن دعاة الإسلام هم باعة الوهم ومروجو التضليل وتغييب الوعي إذ خدرونا بشعار "استعلاء الإيمان" ونحن نتساقط تحت قوى الكفر.
وهذا من أبين الأدلة وأظهرها على أن المعيار الإلهي لقيمة المجتمعات ليس هو "مظاهر القوة المدنية" بل المعيار الإلهي هو "العبودية" بمعناها الشامل, الذي تكون فيه التزكية الإيمانية وفروض الأعيان في هرمه, ويليها الفروض الكفائية ومصالح المسلمين العامة.
وعلى أية حال، أمثال هذه النصوص الشرعية لا تخفى القارئ العزيز قطعاً, بل هو يعرف مثلها وزيادة, وإنما المقصود تذكير النفس والإخوان بها, والإشارة إلى طرف من البراهين الكثيرة على صحة المنهج الإسلامي في صيانة الهوية ومقاومة تهديدات التغريب, وضعف المناهج الحديثة.
وكون الدنيا وسيلة للآخرة, يؤكده ما ذكره بعض محققي الأصوليين من أن وظيفة التشريع إقامة مصالح الدنيا لتقوم مصالح الآخرة, كما قال الإمام أبو حامد في الإحياء: (وأحكام الخلافة, والقضاء, والسياسات, بل أكثر أحكام الفقه, مقصودها: حفظ مصالح الدنيا, ليتم بها مصالح الدين).
مع أن هذه بعض وظائفها, إلا أنه ربطها بالهدف النهائي وهو إقامة الدين, والكلام على تعليل الشريعة سبق في مقالة "مآلات الخطاب المدني".
ومن تأمل في "تراجع الخيرية" في قرون الإسلام الأولى علم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الإسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة ما لا يحصل لسابقيهم, وهذا كله بسبب ما نقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمن سبقهم, وما داخل القلوب من التثاقل إلى الأرض.
بل إن من تأمل لحظة ارتطام الفكر الإسلامي بسطوة الحداثة اليونانية في تاريخ الإسلام المبكر وكيف سببت ارتجاجات وفقدان تماسك لدى كثير من العباقرة والأذكياء, علم أن أئمة الإسلام الذين ثبتوا في تلك المحنة لم يتمكنوا من مقاومة تلك الأعاصير الحداثية إلا حين كانت العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم الرسل أعظم في نفوسهم من كل ما سواها, فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين كل خير.
وهذه البراهين السابقة إنما هي مستقاة من دروس القرآن والسنة وهدي القرون المفضلة, أما لو شئنا الانتقال إلى "النتائج الواقعية" وقارنَّا مثلاً بين "مخرجات المدرسة التربوية الإسلامية" وبين مخرجات الخطاب الديني المتبني لـ"تعظيم الدنيا" فسنرى البون الشاسع في الفعالية والنجاعة.