فمخرجات المدرسة التربوية الإسلامية عميقة الإيمان بمرجعية الوحي, وشديدة الاعتزاز بسلفها, متشبعة بقيم العمل للإسلام والغيرة على الدين, وراسخة الإيمان بظلامية الثقافة الغربية, وجادَّة في امتلاك الوسائل الحديثة كالتخصصات العلمية والمؤسسات الإعلامية وتوظيف التقنيات البرمجية والاتصالية, وغير ذلك مما هو ظاهر لكل أحد, فانظر كيف أن اتِّباع منهج الوحي وهدي القرون المفضلة في تعظيم الآخرة لم يقدها إلى الرهبانية كما يزعم غلاة المدنية, بل قادها إلى النجاح في تنظيم هرمية اهتماماتها بشكل صحيح, فكانت تلك المخرجات التربوية أنجح من غيرها في دينها ودنياها ولله الحمد.
وبالمقابل قارن ذلك بمخرجات "خطاب التأويل الديني" المتبني لـ"تعظيم الدنيا" تجد من يتصالح معه من العلمانيين لم يتزحزحوا عن علمانيتهم قيد أنملة, ومن استمع له من الشباب الدعاة وتشبع بمفاهيمه تجد الكثير منهم اضطربت معاييره, فنقصت هيبة السلف في نظره, وارتفعت قيمة الكفار, وبدأ يشعر بسذاجة المشروعات الدعوية الإيمانية, ثم خسارة "المكتسبات السلوكية" الراقية التي تربى عليها, وغير ذلك من المظاهر المعروفة.
فأين هذا المنهج من ذاك؟
وأساس الخلل الذي لم يتنبه له خطاب التأويل الديني المتبني لـ "أولوية المدنية المادية" هو أنه يمارس دون وعي "إعادة تشكيل داخلي للمعايير" بما يتناقض مع المعايير الإلهية لقيمة المجتمعات والشخصيات والثقافات والأمم.
صحيح أن من اقترب من بعض النخب المثقفة -التي ابتلي بعضها بالتبرم بدين الله- فسيرى أن محاولة إبراز معاني المدنية في القرآن والسنة والتراث لهم يساهم في تخفيف احتقانهم, لكن هذا المنهج وإن كان يخفف بعض الاحتقان لدى أمثال هؤلاء؛ إلا أنه يدمر الشاب المسلم الذي تربى على معاني الإيمان، ووقر في قلبه إيثار الله والدار الآخرة.
وأصدقك القول أيها القارئ الكريم أنني تأملت كثيراً في ظواهر الانحراف الثقافي في صحافتنا ومنتدياتنا -وخصوصاً في مستوياته الشبابية- فرأيت أنه إذا تشرب قلب الشاب "الغلو المطلق في أولوية المدنية المادية" بحيث أصبحت "معياره" في تقييم المجتمعات والشخصيات قاده ذلك "تدريجياً" إلى زهاء خمسة عشر كارثة:
التحييد العملي للنص, والإزراء بالقرون المفضلة, والاستخفاف بقيمة علوم الشريعة, واللهج بتعظيم الكفار, والسرور بالحديث الفكري المجرد, والتدهور السلوكي, والعزوف الدعوي, والتحول للمشروعات الفكرية "الشخصية", واستسذاج الموعظة والخطاب الإيماني, والحدة في محاسبة الإسلاميين, والرحابة وحسن الظن تجاه الدراسات المنحرفة, وذبول الحَمية لله ورسوله تجاه الكتابات المنتهكة للمحكمات, والتركيز على زلات المحتسبين بما يفوق عدوان المجاهرين, والتلذذ بمناهضة الفتاوى, والولع برخص العلماء وشذوذات الفقهاء.
وباختصار شديد: (إن خطاب التأويل الديني يبدأ بالتجديد وينتهي بالتجديف).
ومن الإنصاف أن أؤكد أن أمثال هذه الكوارث لا يجمعها كل من غلا في المدنية وجعلها فوق الإيمان والفرائض, بل هناك تفاوت هائل لا ينضبط طرفاه, وهذا أمر يعرفه كل من تابع الساحة الثقافية, فبعضهم يقارف بعضها وبعضهم يزيد عليها, بل بعضهم فاضل في ذاته لكنه لم يحسم رؤيته تجاه هذه المظاهر نسأل الله أن يحفظ مثل هذا النمط.
وإنما المراد أن أمثال هذه المظاهر الكارثية بمجموعها باتت مشاهد مؤلمة ومحزنة تستدعي استيقاظ الشعور وصعق إحساس الدعاة لإطفاء الحريق في منزلنا الداخلي, يجب أن نعمل سوياً بكل ما نملك لتحريك الوعي بهذه الأزمة, والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.