والمقصود هاهنا أن الأمر المشاهد المعلوم الذي أكدته التجارب الحية أن بعض النخب المثقفة المحتقنة تجاه الدين حتى وإن خف احتقانها عن طريق خطاب التأويل الديني المتبني لـ"أولوية الدنيا" فإنها تستمر في فرض الرقابة على النص الديني, وتطالبه دوماً أن يكون مبرِّراً ومسوِّغاً لمنتجات الحضارة المعاصرة, ولا تقبل منه أن يمارس دوراً سيادياً حقيقياً.
ولا يشك مؤمن أن هذه الحالة التي هي "فرض الرقابة على النص" ليست مكسباً دعوياً ولا منجزاً يتشرف الإنسان بتحقيقه, بل هذه الحالة لا يرضى بها من عقل حقيقة الإسلام الذي هو "امتلاء القلب بالاستسلام لله", فالانقياد والخضوع والانصياع والتسليم والامتثال هو جوهر حقيقة الإسلام, ولذلك اشتهر بين أهل العلم تعريف الإسلام بأنه "الاستسلام", وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى الجوهري في حقيقة الإسلام, كما جاء في قوله تعالى: {ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى} [لقمان:٢٢].
كما أقسم الحق تبارك وتعالى على هذا المعنى في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا} [النساء:٦٥].
فانظر كيف أقسم تعالى هذه المرة بذاته العظيمة-لا بشيء من مخلوقاته كما هي غالب أقسام القرآن- وما ذاك إلا تعظيماً للمُقسَم به, وهو نفي الإيمان على من لم يرض ويسلم لأوامر الشارع ونواهيه مع تنظيف القلب من كل حرج أو تردد في القبول.
وأكد سبحانه أنه ليس للمؤمن اختيار أمام أوامر الله ونواهيه, كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦].
فبالله عليك أخي القارئ تأمل هذا المعنى الذي علق الله عليه الإيمان, ثم قارنه بموقف بعض النخب المثقفة التي لا تبتهج بالوحي إلا إذا وافق الحضارة المعاصرة, فإذا لم يوافقها مارست أشد أساليب التعنت في تطلب الحسم الدلالي, وستجد حتماً أن ذلك نابع من شعبة خفية في القلب تعبر عن شرخ عميق في "أرضية الانقياد" التي يقف عليها إسلام المرء.
ولذلك تجد بعضاً منهم لا يسأل أصلاً عن موقف الوحي من هذه المستجدات والمنتجات والتطبيقات والأفكار والفلسفات, بل يتمنى أن لا يثير أحد هذا الموضوع أصلاً, فإذا جُوبه بالدليل استنجد بصناع التأويلات.
ألا يعكس ذلك ضمور الشغف بمرجعية الوحي؟!.
وبعض آخر -من هذه النخب المثقفة- يشعر شعوراً عميقاً أن الوحي ليس لديه إضافة جوهرية للحضارة المعاصرة, بل يعتبر أن أعظم خدمة يسديها للوحي هو أن يؤكد للناس أنه موافق لإبداعات الحضارة المعاصرة, وأن الوحي ولله الحمد ليس ضدها, ونحو ذلك, وهذا جهل عميق بوظيفة النبوات أصلاً, فإن الله تعالى بين أنه بعث النبوات وأنزل معهم الكتب السماوية بهدف أن "تحكم" بين الناس في كل شؤون حياتهم, لا أن تسوِّغ لهم حياتهم, كما قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:٢١٣].