للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نسبيَّة الحقيقة في الفكر الليبرالي

ياسر بن عبد الله بن عبد العزيز السليّم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن كلَّ دينٍ صحيح؛ جاء مرشداً للإنسان، وهادياً له إلى طريقِ الحق، ومكمِّلاً لما فيه من النقائص التي تعتريه، فهو مخلوقٌ إن تجرد عن الإيمان بالله والانقياد لأوامره واجتناب نواهيه؛ كان في أسفل سافلين، فهو - بلا إيمانٍ وطاعة - يعيش طبيعةً بائسة: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... " (١).

وإن من أكبر الجرائم التي قد يرتكبها الإنسان: استجابته لعدوه الشيطان، ليبدأ معه رحلةَ التحريف والضَّياع، وينساقَ خلف رَكْبِ الأهواءِ والرَّغبات، فيُقدِّمها على نصُوصِ الشرع المُطهَّر، ودلالاته الواضحة، وحقائقه النيِّرة، ليفقد الإنسانُ تلك المعايير التي بها يَعرف الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والهدى من الضلال.

ومن هنا يَكثر التخبُّط والزيغ، وينقاد الفكر تبعاً للأهواء، وتَخضع العقيدة تحت لواءِ العقل الإنساني، الذي إن ابتعد عن نور الوحي وآثار النبوة؛ وقف حائراً أمام الحقائقِ والأسرار والمعارف، وعاش فوضىً حياتية بعيدة كل البعد عن العبوديةِ الخالصةِ المتجرِّدة لله تعالى.

ومن نتائج استجابة الإنسان للشيطان؛ خرجت لنا تلك المذاهبُ المنحرفة، والأفكارُ المخدوعة، التي تعتمد - اعتماداً كلياً - على النظرةِ النقديةِ الفلسفيةِ لكلِّ ثابت، وتتقنَّع بمبدأ الحريَّةِ والانفتِاح، وتركضُ خلف العدو الكافر بدعوى التطور والتقدم. ومن تلك المذاهب: (الليبرالية) (٢).

والليبرالية تفيضُ بالمبادئ والأفكار المتناقضة التي لجأ إليها أربابُ هذا الفكر؛ لأجل الهروبِ من قيود الاستعباد المزعوم، حتى أظهروا أقوالاً عجيبة، وقواعدَ مضطربة، تجعل الإنسانَ يعيش في حَيرةٍ وشك، يصير معها الحقُّ باطلاً، والباطلُ حقاً، وتتلاشى معها المبادئُ والقيم، وينقطع بها عن مصادر التلقي في الدين الحق، فيعيش في جهلٍ وانحراف.

ومن تلك المبادئ قولهم بـ (نسبية الحقيقة)، وهو ما سيأتي تفصيله وبيانه، وتحليله وتشخيصه، ونقده وتقويمه، سائلاً الله أن يمدني بالعون والسداد، وأن يشكر سعي من كان خلف هذا البحث، إشرافاً وتوجيهاً، ودلالةً وعوناً، اللهم آمين.

تعريف الليبرالية

لم يتفق صنَّاع الليبرالية والمنظِّرين لها على تعريفٍ يُحدد معناها بوضُوح، لكنهم اتفقوا على وصفها بـ " الحرية المطلقة "، يقول دونالد سترومبرج: «إنَّ كلمة الليبرالية مصطلحٌ عريض، وغامض، ولا يزال إلى يومنا هذا على حالةٍ من الغموض والإبهام» (٣).

و «الليبرالية فكرةٌ ليست من صنع عَقلٍ بشري واحد، ولا وليدةَ بيئةٍ ثقَافيةٍ أو ظروفٍ زمَنيةٍ واحدة، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن استقرت فلسفةً فكرية غربية وضعية، تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ أو ثابت، إلا ثابت عدم الثَّبات» (٤).

والليبرالية هي - في الأصل - مصطلحٌ أجنبيٌّ مُعرَّب، مأخوذ من ( Liberalism) في الإنجليزية، و ( Liberalisme) في الفرنسية، وهي تعني: (التحررية)، ويعود اشتقاقها إلى ( Liberty) في الإنجليزية، و ( Liberte) في الفرنسية، ومعناها الحرية (٥).


(١) سورة التين.
(٢) وسيأتي بيان معناها.
(٣) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص ٣٣٧، بواسطة: كتاب (حقيقة الليبرالية)، سليمان الخراشي.
(٤) كتاب: (معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية) ص ٣٢.
(٥) انظر: المعجم الفلسفي ١/ ٤٦١، بواسطة: كتاب (حقيقة الليبرالية).

<<  <  ج: ص:  >  >>