لا يمكن لمن يريد أن يسطّر مقالًا في هذه الأيّام أن يعاند رغبة جامحة في التعليق على الحدث الأكبر في هذه الأيّام، أعني سقوط جلاّد من جلاّدي الغرب الّذين نصّبهم على البلاد الإسلامية حارسًا لها من أيّ صوت حُر، خاصّة إن كان صوتًا إسلاميًا مَهما كان بعده عن روح الدّين الحقيقي ..
لديَّ أربع مسائل أحبُّ لفت النَّظر إليها:
الأولى: تونس اليوم تعيش أيّام فتنة حقيقيَّة نسأل الله أن يقيهم شرَّها، وأن يمكِّن فيها لمن في تمكينه رفعة البلاد وخير العباد، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلّم- الّتي لا عصمة لأمّة محمّد -صلى الله عليه وسلّم- إلاّ بها.
في أيّام الفتن يكثر المتكلّمون، ويطيب للبعض أن يساير الجموع وألاّ يقول إلاّ ما يرضيهم، لكن واجب أهل العلم والعقلاء أن يقولوا الحقيقة، وأن يبيّنوا للنّاس حدود ما أنزل الله على رسوله.
واحد من أهمّ ما تمّ التدّليس بشأنه منهج الإسلام في مثل هذه الظروف؛ إذ طلع علينا بعض المنسوبين للدّعوة يصرّح بأنّ الخروج على الحكّام الظّلمة جائز بل واجب، وأنّ القول بتحريم الخروج هو قول وعّاظ السّلاطين وعلماء الحكام.
وهذا والله الظّلم بعينه، وقائل هذا الكلام جاهل بحقيقة نفسه قبل أن يكون جاهلًا بحقيقة السنّة؛ فإنّ السنّة مضت واستفاضت بتحريم الخروج بالسلاح والقوة على السّلطان، لا أريد أن أفيض بذكر النصوص الشرعيّة الدّالّة على ذلك؛ فمصادر السنة وأقوال الأئمّة كثيرة جدًا لا تسمح بأيّ تأويل أو تنصّل، وبعض أقوال الأئمّة كانت في عصر واحد من أكثر الطغاة والسّفاكين للدماء، ألا وهو الحجّاج بن يوسف الثقفي، وبعضها كان في أيّام يزيد بن معاوية، لكن تأمّل معي هذا الحديث الّذي يصف فيه النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- الحالة بين الحاكم والمحكوم بأبلغ وصف، قال عليه الصلاة والسّلام:«شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» .. أرأيت أكثر من ذلك، ترى ما الّذي يجعل شعبًا يبغض حاكمه ويلعنه؟ وأيّ حاكم هذا الّذي بلغ منه الأمر أن يبغض شعبه ويلعنه، وأيّ معاملة سيعامله بها وهو يبغضه ويلعنه؟
تستطيع أن تفرض ما تشاء من الأسباب والصّور، فكلّ ذلك يدخل فيه، ومع هذا تأمّل جواب النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- لمّا قال له الصّحابة:«يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة»، والحديث في صحيح مسلم وهناك غيره كثير.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وكان الحسن البصري يقول: إن الحَجّاج عذاب الله؛ فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول:(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)» .. وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم» انتهى.
وهؤلاء الأئمّة الذين ذكرهم شيخ الإسلام ومن على دينهم من علماء العصر الحديث لا ينهون عن القتال والخروج حبًّا أو حرصًا على ولاة الجور -لا كثّرهم الله- وإنّما خشية على الناس أن يكونوا وقودًا للحرب، خاصّة وهم لا قوة لهم .. هذا من جهة.