ومن جهة أخرى فإنّ كثيرًا من الانقلابات والخروجات لم تأتِ بحكومات خير ممّن سبقها، بل هي مثلها إن لم تكن أسوأ منها، فتذهب دماء النّاس وأعراضهم وأموالهم بلا فائدة.
لكن ليس معنى ذلك أنّه لا يجوز سعي النّاس في خلع الحاكم بالطرق السلميّة كالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فأفضل الجهاد كما قال النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كلمة حق عند سلطان جائر.
والشّاهد أنّه لا يجوز استغلال ما حصل في تونس لتهييج النّاس وحثّهم على الفتنة والشغب، خاصة من أقوام يعيشون في الخارج في الدّعة والراحة، ويطلقون الصيحات التثويريّة التي لا تراعي اختلاف الظروف بين بلد وآخر، وبين حاكم وآخر، وبين مطالبات حقيقيّة سببها الجوع والفقر، وبين أخرى دافعها الترف والحريات الموهومة.
الثانية: أنّني وإن قرّرت مذهب السنّة في الخروج على الحكّام، فإنّي أحبّ لفت النّظر إلى ملحظ مهمّ لا نملك معه إلاّ أن نردّد: سبحان الله!
فقد ظلّت تونس محجوبة عن الشّمس عقودًا طويلة منذ طاغيتها الأوّل بورقيبة حتّى خلفه زين العابدين بن علي ففعل في شعبه الأفاعيل، وأسوأ ذلك معاداته للتديّن بكل أشكاله وصوره ..
والآن مزّقه الله كلّ ممزّق، ورأى العالم كلّه من شرقه إلى غربه كيف أسقط الله الطاغية بأدنى الأسباب ..
عجيب هذا التقدير الرباني ..
لم تحرك جيوش أمريكا ولا أوروبا، ولا عملت أجهزة استخبارات، ولم تدفع الملايين لرشوة القادة والعسكر، ولم يتم استنفار طبع الخيانة لدى طائفة من المارقين ..
كانت انتفاضة عفوية طبيعية قدّرها الله تقديرًا ..
وإذا جاءت هذه الأحداث قدرية سبّبها مسبّب الأسباب على أيدي من لم يفكر في شرع ولا شريعة، فمن العبث ما قرأناه للبعض من الاستماتة لتأصيل مذهب السّلف في الخروج على الحكّام الظّلمة وتوصيفه للحالة التونسيّة؛ لأنّ القدر في تونس حلّ وحكَم وفصَل، والتأصيل الشرعي لمسألة الخروج في مثل هذه الظروف ليس له محل، وإنّما المطلوب تأصيل الحالة الراهنة والمطالبة بوضع مريح للدّعوة الإسلامية.
وشيء آخر هو أنّ زين العابدين وأمثاله لا يجوز أن يُدخل في نطاق مسألة الخروج على حكام الجور؛ لأنّ الأمر فيه أكبر من ذلك بكثير .. فحكومة تونس ونظامها لم تجُر في حقوق الدنيا فقط، بل كانت محارِبة لله ورسوله، وكثير من الشّعائر الإسلامية كان المسلم يستطيع أن يظهرها في أوروبا، ولكنه لا يستطيع أن يظهرها في تونس، حتّى الصّلاة يُضايق في أدائها، فلا ينبغي أن يشكّ عاقل عن أنّ مثلها لا يدخل في مسألة الخروج، أمّا مسألة الفتنة وتقدير المصالح فهذه لها مجال آخر.
الثّالثة: يا لها من عبرة ..
بعض حكّام العرب يشعر بأمان وطمأنينة كبيرة؛ لأنّه يركن إلى ركن شديد -أعني أمريكا والغرب- أو تغرّه قوّته الداخلية ومنصبه وزبانيته من حوله ..
لكن حين يأتي تقدير اللّطيف والخبير يتمّ الأمر بألطف الأسباب، ويرى الحاكم بأمّ عينيه أنّ الرّكن الّذي آوى إليه لم يغن عنه شيئًا، كما رأينا زين العابدين يتسوّل مدرجًا تهبط عليه طائرته قبل أن تسقط بمن فيها ..