[زجر أهل العلم والتقوى للمتساهلين بالفتوى]
سعد بن ضيدان السبيعي
٢٧جمادى الآخرة ١٤٣١
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد
فقد روى يعقوب بن شيبة في [المعرفة والتاريخ] (١/ ٦٧٠)، والإمام ابن عبد البر في [جامع بيان العلم وفضله] (٢/ ٢٠١) أن رجلاً دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي المعروف بربيعة الرأي وهو يبكي فقال: ما يبكيك - وارتاع لبكائه - أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا, ولكن "استفتي من لا علم له, وظهر في الإسلام أمر عظيم".
أقول رحم الله شيخ إمام دار الهجرة فكيف لو أدرك زماننا ورأى الجرأة على الفتيا وكثرة الموقعين عن الله عز وجل؟!
فكم سمعنا من فتاوى نشاز من هنا وهناك، طارت بها الركبان، ونشرت على صفحات الانترنت، وظهر أصحابها يتفوهون بها على شاشات الإعلام وتسارع إليها الجهال ومن في قلبه مرض ومن يتتبع الرخص!
وهي أعني هذه الفتاوى ليس لها ذنوباً وحظاً من فقه وعلم وإنما صدرت باسم فقه التيسير، ومراعاة لضغط الجمهور، أو لأغراض فاسدة، كالتعلق بأذيال الشهرة، وحب الظهور من باب: (أنا أبو اعرفوني)!
فهذا يفتي بجواز الغناء وآخر بإباحة الاختلاط وثالث بإباحة الفوائد البنكية!
وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ فيما قاله أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، ينظر [إعلام الموقعين] (٤/ ٢٣٧).
وقد نص أهل العلم على أنه لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى وذلك قد يكون بأن لا يثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنقصة وذلك جهل ولأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل. ينظر [فتاوى ابن الصلاح] (١/ ٢١)، ونقله النووي في [أدب المفتي والمستفتي] (٧٢)
وما أجمل قول الخطيب البغدادي في كتابه [الفقيه والمتفقه] (٢/ ٣٥٠): "وقل من حرص على الفتوى, وسابق إليها, وثابر عليها إلا قل توفيقه, واضطرب في أمره, وإذا كان كارهاً لذلك غير مختار له, ما وجد مندوحة عنه, وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتواه وجوابه أغلب".
فانظر الآن يا رعاك الله إلى بعض من يتصدرون للفتيا تجدهم سارعوا إليها واشرأبوا حتى لا ينكسر الجاه وأضاعوا "لا أدري" وقديما قيل: إذا أغفل العالم لا أدري، أصيبت مقاتله. وهذا مروي عن محمد بن عجلان بسند صحيح رواه الآجري في [أخلاق العلماء] (١٠٢)
قال ابن جماعة الكناني في [تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم] (٢٣) "واعلم أن قول المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن تثبته. وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، حين لم يرد موسى عليه الصلاة والسلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك".
وقد كان أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلون من الفتيا والكثير منهم لا يروى عنه في هذا الباب إلا المسألة والمسألتان!