عن أبي هريرة قال: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته. إن كان ليخرج إلينا العُكّة فنشقها فنلعق ما فيها.
وعن أبي هريرة قال: كان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسميه "أبا المساكين".
وعن ميمون بن مهران أن امرأة ابن عمر عوتبت فيه، فقيل لها: أما تلطفين بهذا الشيخ فقالت: فما أصنع به! لا نصنع له طعاماً إلاّ دعا عليه من يأكله، فأرسلت إلى قوم من المساكين كانوا يجلسون بطريقه إذا خرج من المسجد فأطعمتهم، وقالت لهم: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته فقال: أرسلوا إلى فلان وإلى فلان، وكانت امرأته أرسلت إليهم بطعام وقالت: إن دعاكم فلا تأتوه، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: أردتم أن لا أتعشى الليلة، فلم يتعشّ تلك الليلة.
وعن أبي ذر قال: أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأوصاني بحب المساكين والدنوّ منهم.
ومن المعاصرين شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمه الله- الذي تواتر عنه أنّه لم يأكل عشرات السنين إلاّ مع الفقراء والمساكين.
فلا عجب إذن من ذلك الثبات وذلك الرسوخ؛ إذ أقفلوا في وجه الشيطان كلّ باب، وسدّوا عليه إلى قلوبهم كلّ سبيل؛ فرحم الله ميتهم وحفظ الله حيّهم.
ومن مظاهر الترف كثرة الأكل والشرب، وتطلّبهما في كل مناسبة، حتّى مجالس العلم. عن بكر بن خنيس عن أبي عبد الله الشامي عن مكحول قال: «أفضل العبادة بعد الفرائض الجوع والظمأ». قال بكر: «وكان يُقال الجائع الظمآن أفهم للموعظة وقلبه إلى الرقة أسرع». وكان يُقال: «كثرة الطعام تدفع كثيراً من الخير».
وعن عبيد الله بن شميط قال: سمعت أبي إذا وصف أهل الدنيا قال: «دائم البطنة، قليل الفطنة، إنما همّه بطنه وفرجه وجلده، يقول متى أصبح فآكل وأشرب وألهو وألعب، ومتى أمسي فأنام جيفة بالليل بطالاً بالنهار».
وعن أبي بكر بن المنذر الهجيمي قال سمعت سهل بن عبد الله يقول: «البطنة أصل الغفلة».
وقال سفيان الثوري: «إياكم والبطنة فإنها تقسّي القلب».
عن عبد الواحد بن زيد قال: «من قوِيَ على بطنه قوِيَ على دينه، ومن قوِيَ على بطنه قوِيَ على الأخلاق الصالحة، ومن لم يعرف مضرّته في دينه من قبل بطنه فذاك رجل في العابدين أعمى».
وعن عبيد الله بن محمد التيمي قال: قال رياح القيسي: «لا أجعل لبطني على عقلي سبيلاً أيام الدنيا». فكان لا يشبع، إنما كان يأكل بُلغة بقدر ما يمسك الرمق.
وعن جعفر قال: كنا نأتي فرقداً السبخي ونحن شببة فيعلمنا فيقول: «إنّ من ورائكم زماناً شديداً شدّوا الإزار على أنصاف البطون، وصغّروا اللُّقَم وشدّوا المضغ، ومصّوا الماء، فإذا أكل أحدكم فلا يحلّنّ من إزاره فتتسع أمعاؤه، وإذا جلس ليأكل فليقعد على إلييه، وليلزق فخذيه ببطنه، وإذا فرغ فلا يقعد وليجيء وليذهب».
وعن عثمان بن زائدة قال: كتب إليّ سفيان الثوري: «إن أردت أن يصحّ جسمك، ويقلّ نومك فاقللْ من الأكل».
آخر الكلام: الآثار كثيرة، وواحد منها يكفي، ولو نظر الواحد إلى حال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه عرف حقيقة الأمر، حتّى أغنياؤهم ممن يحتج البعض بحالهم كانت الأموال في أيديهم لا في قلوبهم، ينبيك عن ذلك إنفاقهم في سبيل الله، وطبيعة استمتاعهم بتلك الأموال. عن أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان الداراني: كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف موسرين! قال: «اسكُت! إنّما كان عثمان وعبد الرحمن خازنين من خزّان الله في أرضه ينفقان في وجوه الخير». فانظر لحال من يحتجّ بحال عثمان وعبد الرحمن هل منهم من يفعل فعلهما؟ أم أنّ الاحتجاج بهما فقط في كسب المال وكنزه دون إنفاقه؟
اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.