أرجو أن تتذكر الآن أنّي لا أتكلم عن حلّ ولا حرام ..
أتحدث عن فضيلة منسيّة ..
لقد أصبحنا نشتاق لرؤية العالم أو الداعية الّذي يغنيك حاله عن قوله، قال مالك بن دينار: «إنما العالم أوالقاصّ الذي إذا أتيته فلم تجده في بيته قصّ عليك بيتُه، فترى حصيراً للصلاة، ترى مصحفاً، ترى إجانة للوضوء، ترى أثر الآخرة».
وعن الأعمش أن رجلاً أعطاه مالاً يشترى به زعفراناً قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: «ما كانوا يطلبون الدنيا هذا الطلب».
وعن عبيد بن عمير قال: «إن الله يبغض القاري - أي العالم - إذا كان لبّاساً ركّاباً ولاّجاً خرّاجاً».
وعن عبيد الله بن شميط قال سمعت أبي يقول: «يعمد أحدهم فيقرأ القرآن، ويطلب العلم حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره، وحملها على رأسه فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة وأعرابي جاهل وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها». وكان أبي يقول فمثله كمثل الذي قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}».
وصدق رحمه الله؛ فالآن ترى حولك من يبالغ في زينة الدنيا من الناس حتى يقترض للسفر إلى السياحة، ويغيّر السيارة والأثاث مرات بلا حاجة، ويشتري من الثياب ما ينفق على أسرة فقيرة عاماً كاملاً، وإذا نصحته احتجّ لك بأسماء معروفة ..
يا لبؤسنا حيت تصبح النصوص الشرعية حجة في التملّص من الشريعة .. !!
ويا لبؤسنا مرة أخرى حين تصبح القدوات حججاً في ترك وهجر الفضائل .. !!
وكثير من الشكوى من الفقر ليس الفقر الحقيقي، وإنّما أصبحنا نعدّ بعض الأمور من الضرورات وهي ليست كذلك، والسبب هو غياب القدوة الّتي تقول للناس بحالها قبل مقالها: إنّ ما يعدّه البعض فقراً هو بالنسبة لبلاد أخرى بذخ ..
ولهذا كان السلّف آيات في هذا المجال، عن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: «العالم طبيب الدين، والدراهم داء الدين فإذا جذب الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوي غيره».
عن سعيد بن محمد قال كان من دعاء طاووس: «اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الإيمان والعمل».
وفي الأثر عن كعب قال: إنّ الرب تعالى قال لموسى عليه السلام: «يا موسى إذا رأيت الغنى مقبلاً فقلْ ذنب عُجّلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقلْ مرحباً بشعار الصالحين».
وكان قصدهم بذلك تركيز الهمّ في جهة الآخرة، فأودية الدنيا كثيرة، عن أبي إدريس قال: «من جعل همومه همّاً واحداً كفاه الله همومه، ومن كان له في كل واد همٌّ لم يبال الله في أيها هلك».
ومن آثار ذلك أنّ الكثير منّا للأسف أصبح يحب مجالس الأغنياء والمترفين، ويحرص على مجالستهم، فضلاً عن أهل المناصب من أمراء وملوك ورؤساء، وهذا خلاف منهج السلف، عن أبي داود أنه سمع محمد بن علي يقول: «إذا رأيتم القارئ (العالم) يحب الأغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص».
وقال سفيان الثوري: «لا خير في القارئ يعظم أهل الدنيا».
وعن هشام قال: «سمعت الحسن يحلف بالله ما أعز أحد الدرهم إلاّ أذله الله».
قال الزهري لسليمان بن هشام: «ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء» قال: «وما عسيت أن أقول في العلماء إلاّ خيراً. إني أدركت العلماء وقد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا، ولم يستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأوا ذلك قدموا بعلمهم إلى أهل الدنيا، ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم شيئاً .. إن هذا وأصحابه ليسوا علماء إنما هم رواة».
ولهذا كان أئمة السلف والخلف يحرصون على الجلوس مع الفقراء والمساكين يتطلبون رقة القلوب وثبات الإيمان والأجر.