للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة - رؤية تأصيلية]

سلطان العميري

١٠شوال١٤٣١هـ

من أظهر الأمور الدينية: أن المهمة الأولى لدعوة الرسل والهدف المركزي فيها هو تعبيد الناس لله تعالى، وغرس التعلق به في كل حياتهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:٣٦].

فمقصد بعثة الرسل وأساس دعوتهم ومنتهى أعمالهم وغاية جهادهم وقطب الرحى في حياتهم والفكرة التي حولها يدندنون، ومنها يقصدون وإليها يرجعون، وفيها يبذلون هي: عبادة الله وحده، وغرس فكرة العبودية في عقول الناس وقلوبهم، وإنكار عبادة كل ما سواه من الأوثان وغيرها.

والذي يحاول أن يدقق النظر قليلا في طريقة القرآن في شرحه لمهمة الرسل يجد أنه اختار لفظ " العبادة " ومفهوم " العبودية " ليجعله مرتكز دعوة الرسل؛ وسبب ذلك: هو أن هذا اللفظ وذلك المفهوم يتضمن معاني لا يتضمنها غيره من المفاهيم، وله وظيفة لا يؤديها مفهوم آخر كما يؤديها هو، فمفهوم العبودية يتضمن معنى الحب والخوف والرجاء والإجلال والذل، فأصل معنى العبادة يرجع إلى الذل والخضوع، وهي عبارة عما يجمع غاية الحب مع غاية الخضوع للمعبود، يقول ابن تيمية: (العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له) (١٠/ ١٥٣)، ويقول منبهاً على العلاقة بين الحب والذل في مفهوم العبادة: (من خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما قد يحب ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله) (١٠/ ١٥٣).

ولأجل هذا أكثر القرآن في بيان دعوة الرسل من ذكر اسم الله واسم الإله؛ لأن هذا الاسم يؤدي إلى نفس المضمون التي تتضمنه العبودية (فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا وإكراما).

وهذا يؤكد على أن المعْلَم الذي أبرزه القرآن ليكون أساس دعوة الرسل ومحور رسالتهم هو مفهوم العبودية، الذي يتضمن معنى الحب والرجاء والخوف لله تعالى، وهذا يجعل العلاقة بين الله وبين خلقه قائمة على معاني روحية متدفقة، تنبع من داخل الأعماق وتفيض على جميع جوانب الحياة، فهي علاقة أعمق وأدق من كل المعاني الأخرى التي تزاحمها، ولهذا لهج القرآن بذكر أوصاف الله تعالى وأسمائه، التي تقتضي تعلق قلوب العباد به سبحانه بالحب والرجاء والخوف والإجلال والتعظيم، فهذه المعاني الروحية الجملية هي التي جعلها القرآن محور دعوة الرسل، وهي التي سعى القرآن إلى تجذيرها في عقول الناس، وبذل كل السبل في ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>