وكان ينتصر لحق الضعيف بالبيان للناس إذا أُخذ ماله ولو كان عبداً مملوكاً، فبريرة أمَة مظلومة اشترط أهلها الولاء لهم بعد عتقها لنفسها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط.
ومع هذا فكان زاهداً في حق نفسه ينام على حصير يؤثر على جنبه، ويقول له الصحابة: لو اتخذنا لك وطأة؟ فقال: مالي وما للدنيا ما أنا فيها إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها.
بل الخوض في مصالحهم بالصلح أفضل من الانشغال بنوافل الصلاة والصيام ففي سنن الترمذي عن أبي الدرداء قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة.
وهذا أكثر وقعاً على العامة أن يزهد في المال من يُعطيه، لأنه كان في يده فأوصله لغيره، ويمكنه حبسه لنفسه.
والزهد في الحديث عن حفظ أموال الناس والمجتمعات وبيان خطورة التعدي عليها ثلم عظيم في مهمة الرسالة، وكسر لمفاتيح قلوب الناس، التي لا يُدخل إليها إلا بدنياهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُعطي الناس المال تأليفاً واستمالة لقلوبهم، ويحفظ لهم حظ الدنيا ليبقى حظ الدين، ومقتضى ذلك أن من قصر في حفظ دنياهم وتهاون مع قدرته على ضبطها، فهو مضيع لدينهم، ومن نظر إلى مصارف الزكاة الثمانية في القرآن عرف أن المقصود بدفع المال هو حفظ الدنيا ليُحفظ الدين، فلا دين إلا بدنيا.
ثالثاً: حصر التفقه في الدين على أبواب مخصوصة من العلم، ولضعف خوض العالم في دنيا الناس وأفكارهم وصونها ضعُف أخذه للعلم الذي يؤدي إلى تحقيق ما تركه وزهد فيه، فإذا بعُد عملاً وخوضاً في سياسة المجتمعات والدول والحقوق والأفكار المتعلقة بذلك، فهو سيبتعد غالباً عن الخوض في العلوم المؤدية إلى معرفتها ولو كان الجهل بها مضراً بالدين ومسوغاً للتسلل إلى نقض حماه، لهذا يُحسن كثيرٌ من العلماء المعاصرين معرفة الطوائف والفرق السالفة لوجودها في بطون الكتب، ويعرف حجج أهلها ونقضها، ولكنهم ربما يجهلون كثيراً من الطوائف المعاصرة التي هي أشد خطراً من الطوائف السابقة في الناس كالعلمانية والليبرالية والمدارس الفكرية المعاصرة وأثرها على عقائد الناس ودينهم ودنياهم، وإذا ظهر ضعف تفسيرهم لها، وهوان الرد عليها، قويت حجة المخالف ولو كانت ضعيفة لأن حجة العالم أضعف في العرض وإن كانت أقوى في الأصل، والسلاح براميه، فالحاذق العارف يصيب ولو بالسهم، والجاهل يخطيء ولو بالبندقية.