للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم يعد ممكنًا إنكار الخلل العقدي والمنهجي والسلوكي "للكنسية"، ليس من نظرة إسلامية بل من نظرة نقدية مسيحية داخلية، فبدأت تظهر حركات نقدية وتصحيحية تركز بشكل أساسي على الخلل السلوكي الذي كان يمارسه رجال الدين والباباوات. فكانت الاعتراضات تتركز على بيع وشراء ترقيات الكنيسة، ومناصبها، وغنى رجال الدين الفاحش، وإقطاعيات الكنيسة، وبقية المخازي السلوكية المادية والأخلاقية، فكان موقف الكنيسة واضحًا وهو الحرمان من حقوق الكنيسة لمن يتعرض لمخازيها بالنقد، ولم تكن "الكنيسة" راغبة في قبول دعوة التصحيح والإصلاح والتجديد، ولمواجهة الخطر قام تحالف بين "الكنيسة" و"الملوك"، أي تحالف بين الإقطاعيين لمواجهة حركة التمرد والنقد الديني والشعبي.

ونتيجة طبيعة لذلك زاد النقد، وظهرت حركات تصحيحية كثيرة أخرى، منها المؤمن ومنها المتشكك ومنها الحركات الإلحادية. وما إن ظهر "مارتن لوثر" حتى تلقت الكنيسة الضربة الكبرى على يده وعلى يد "جون كالفن"، وحدث أن تحالفت الحركة الإصلاحية مع بعض الملوك ضد الكنيسة، وأراد هؤلاء الملوك أن يستقل بسيادته عن سيادة الكنيسة وعن سلطة بقية الملوك، ووجد بعض الإصلاحيين الأمر أسهل حينما تحالفوا من الملكيات ضد المرجعية الدينية، فمثل لهم ملاذً آمن وفرصة عظيمة لضرب الأسس الفلسفية والدينية للنظام الإقطاعي، وهذا ما لم تدركه الملكيات آنذاك.

لم يكن بكل تأكيد "مارتن لوثر" ملحدًا أو مهرطقًا أو متشككًا، بل كان مؤمنًا قسيسًا متشددًا إلى أبعد الحدود، ولذا لم يكن يتخيل أن حركته الإصلاحية فيما بعد ستكون إحدى الأسس التي سوف تشيد العلمانية الملحدة صرحها عليها. وهذا ينسحب أيضًا على مجموعة من الأذكياء، الذين يمكن أن يحسبوا على المؤمنين مثل: "رينيه ديكارت" و"ليبتز" و"إيمانويل كانط"، الذين كانوا يراقبون بقلق هذا الصراع، بين القديم والجديد، فحاولوا التدخل للإصلاح، وصنع منهجٍ وسطي يصلح أن يكون جسراً يردم الهوة بين هؤلاء جميعاً، فحاول الجمع بين منهج العقلانيين والكنسيين، وذلك من أجل الحفاظ على الإيمان بصورة وسطية تنويرية!

لكن محاولتهم الصادقة والبريئة تلك كانت بكل جدارة الضربة الأخيرة للكنيسة، فجاءت ضربة التغيير من داخل الكنيسة لا من خارجها.

هذا التاريخ الكنسي يُحاول البعض جره إلى البيئة الإسلامية، ومن خلال محاولة صناعة أو تبني "عمائم ليبرالية" تنشط بفعاليَّة من داخل أسوار الدين، ولذا ليس من المستغرب أن يقول الدكتور "جورج طرابيشي": "ليس لنا أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم"!، فهو يربط -بشكل له مغزى خطير- بين التاريخ الكنسي وما يجب أن يُكرر في الدين الإسلامي. خصوصًا إذا عرفنا أن الدكتور "طرابيشي" دعاء بكل صراحة إلى علمنة الإسلام مثل المسيحية بواسطة إعادة قراءة التراث الإسلامي الديني من خلال عيون عَلمانية، أي من خلال "مذبحة التراث". فهؤلاء -كطرابيشي وأمثاله- يريدون بكل وضوح تطبيق المقولة المنسوبة "لجمال الدين الأفغاني" القائلة: "لن يقطع عنق الدين إلا بسيف الدين نفسه"!

وهذا قد لا ينطبق على كثير من الأخوة الفضلاء الذين يُسمون بالتنويريين، حيث إن دافعهم هو الغيرة على الدين والشغف بالحرية والعقل والحقوق، لكن تضخمت قضية "الحرية" بشكل كبير ومفزع، بسبب تضخم القهر واستلاب الحقوق، حتى التزموا جعل الشريعة أو "تطبيق الشريعة" محكومة بـ "صندوق الاقتراع" وفق مبدأ "سيادة الأمة".

فما هو مبدأ "سيادة الأمة" المقدم على "سيادة الشريعة"؟

<<  <  ج: ص:  >  >>