للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هل يُمكن القول إن المقصود بـ"سيادة الأمة"، الذي يحكم "سيادة الشريعة"، هو اختيار الأمة بكاملها، أي توافق كل أفرادها على شيءٍ ما؟ لا أظن عاقلاً يمكنه أن يزعم ذلك، فلا يُمكن بحال أن تتفق أمة من الأمة بكل أفرادها على أمرٍ ما حتى ولو كان من أعظم الأصول، وهذا أمرٌ بدهي. وإنني أزعم أنه لو طرح موضوع "الإيمان وجود الله" في "صندوق الاقتراع" في السعودية على وجه التحديد فلا أظن أن تكون النتيجة ١٠٠%.

إذن، المقصود من "سيادة الأمة"، وهو "سيادة الأكثرية" أي اختيار الأكثرية، وأن تقوم السيادة على مبدأ اعتبار الأكثرية في تقرير الشرعية، فالشرعية ذاتية في "الناس الأكثر"، و"الشريعة" هي الممنوحة الشرعية بواسطة "الأمة" أو بالأصح -علميًا وواقعيًا- بواسطة الأكثرية. وهذا حكم تقريري بانعدام الشرعية الذاتية "للشريعة" أو "لحكم الله"، وانتقلت "الشرعية" أو "السيادة" لمجموعة من الناس يُسمون "الأكثرية".

و"مبدأ الأكثرية" مبدأ سياسي يُشير إلى فوز مجموعة أو تكتل "مهما كان" بأكثر من نصف أصوات الناخبين، أو بتعبير آخر، "مبدأ الأكثرية" أو "السيادة" هي نفس "مبدأ الغلبة" لكن بواسطة الاقتراع. وهو مبدأ قديم عرفه اليونان وأشار إليه "أرسطو"، ونصَّ "جان جاك روسو" أنَّ "الأكثرية" ملزمة للآخرين.

هذا المبدأ "الأكثرية" يقوم على إدعاء الحق في إعطاء صفة الحق والصواب لمبدأ العدد؛ لمجرد أنه عدد، فما يقره العدد الأكثر يصبح هو الحق والصواب والحقيقة، وهذا بلا شك مخالفة صريح للإسلام الذي لا يعتبر بمسألة العدد أو "الأكثرية" في مسألة تحديد الأمور القطعية أو تحديد ماهية الحق أو الصواب والحقيقة، فضلا عن تقرير قبول الشريعة أو رفضها. قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: ١١٦].

وإنه من الصعوبة -على الأقل بالنسبة إليَّ- فهم قول القائل الفاضل: "فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية. وإن اختارت شيئا آخر غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به، لأنه لا خير في قيم ومبادئ لا تؤمن بها الشعوب ولا تتمثلها وتطبّقها إلا خوفا ونفاقا وتقيّة".

ثم قوله بعد ذلك مباشرة: "لا يعني أن الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق كما يتصور البعض. بل المعيار من حيث المنطق المعرفي هو المرجعية التي يؤمن بها الإنسان سواء كانت دينية عقدية/ أو فلسفية وضعية، ومعرفة الحلال والحرام في الإسلام لا يكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة".

حقيقة أجد صعوبة بالغة في رؤية التوافق بين التقريرين السابقين، ففي الأول "الأكثرية" هي من تعطي الشرعية لمنظومة القيم الإسلامية بل للشريعة نفسها، أي بكل وضوح "الأكثرية" هي معيار شرعية الأخلاق والقوانين والقيم. لكن في التقرير الثاني "الأكثرية" ليست هي معيار المبادئ والقيم والأخلاق! حقيقة احتاج إلى مساعدة لفهم كيفية التوافق بين هذين التقريرين.

<<  <  ج: ص:  >  >>