والعرف لا يُستدل به إلا إذا كان عرفًا محكومًا عليه بالإباحة بمقتضى البراءة الأصلية أو بنص خاص من الكتاب أو السنة, وحين يحكم بإباحته فلا يستخرج منه على الوقائع حكم من الأحكام الخمسة المعروفة, بل يستخرج من العرف تقدير ما حكمت النصوص بإباحته أو استحبابه أو وجوبه أو كراهته أو تحريمه, كما حكم الشرع بلزوم النفقة على الوالد, وجعل تقدير المطلوب إنفاقه موكولاً للعرف، كما قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق:٧) وأباح لمتولّي مال اليتيم أن يأكل منه، وترك تقدير ما يحل له للعرف، كما قال سبحانه: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وبدارئ أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} (النساء:٦).
وعلى ذلك أمثلة كثيرة في سائر أبواب الفقه, أما أن يكون العرف دليلاً ابتداءً فهذا ما لم يقل به أحد.
وكذلك العادة: لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً, بل هي موضع لتنزُّل سائر الأحكام عليها, فإذا حكمنا بموجب النص بإباحتها, جعلناها حكمًا في فهم تصرفات المتعاقدين ونياتهم, كما لو ادعى أحدهم على زيد ألف ريال, وأقر زيد الألف وادعى أنها هبة بقرينة أن الرجل أعطاها إياه ليلة عرسه، ومن عادة الناس أن يعطوا مثل هذا المبلغ إعانة على العرس, فإننا نقبل دعوى زيد الهبة بقرينة العادة, وهذا بخلاف ما لو كان المبلغ المدعى به عشرين ألفًا فإن زعم زيد أنها هبة لا يُقبل؛ لأنه لا يجري في عوائد الناس هبة مثل هذا المبلغ ليلة العرس.
أما تغير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة, فذلك متعلق بالفتاوى التي مستندها العرف والعادة على النحو الذي قدمت في المثالين السابقين, فإذا حكمنا على الزوج بنفقة زوجته ألف ريال في الشهر في هذه البلاد فإننا نحكم بربع هذا المبلغ في بلد آخر, وإذا حكمنا بدفع العوض نقدًا في بلد, فقد نحكم بدفع العوض عينًا في بلد آخر، تبعًا للعرف وعوائد الناس.
فيبقى الحظ الأوفر والنصيب الأكمل في استنباط الأحكام إلى النصوص المحكمة، كتابًا وسنة وما ينبثق عنها من أدلة كالإجماع والقياس.
وفي هذا الصد أذكر مقاصد الشريعة، فقد كثر الحديث حولها في أيامنا هذه، وألفت فيها البحوث المطولات, لكن الذي ينتهي إليه الباحث المنصف أن مقاصد الشارع لا يجوز اتخاذها دليلاً ابتداءً, بمعنى أنه لا يجوز للمفتي أن يحكم بإباحة أمر أو تحريمه وليس له سند إلا ظنه أن إباحة هذا الأمر أو تحريمه تلبي مقاصد الشارع من التشريع.
لأننا مع قولنا بأن أحكام الله تعالى معللة بالحكمة فإننا لا نقطع بالحكمة إلا إذا كانت منصوصة, أما الحِكم المستنبطة فهي مضمونة أو موهومة مستندها التدبر المحض, أي أن مصدر القول بها هو العقل، ولا يجوز أن يكون العقل مصدرًا للأحكام مطلقًا.
نعم نستفيد من علم المقاصد في تدبر أحكام الشريعة واستنباط الحكم منها, كما نستفيد منها في الترجيح عند تعارض الأدلة في نفس المجتهد, لكن المقاصد وحدها ليست دليلاً حاكمًا، إذ هي ثابتة بالدليل, وما كان محتاجًا إلى دليل لا يكون دليلاً منفصلاً.