للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إما ضغط الواقع أو الخوف من الواقع, وهما مؤثران خطيران جدًّا على مكانة ما يصدر عنهم من فتاوى وآراء, حيث يحولان دون النظر إلى النص بروح التجرد إليه والانصياع التام له, مع أن الفريقين مؤمن بحاكميه النص ومرجعيته, لكنهم -أي أفراد الفريقين- يضطرون إما إلى الحكم مباشرة من منطلق ما يحملونه من مشاعر تجاه واقعهم دون البحث عن النصوص, أو إلى اختزال دلالة النص إلى مساحة لا ظلال عليها من ضغط الواقع أو الخوف منه.

والحق في هذا السياق أن يكون التأني في فهم الواقع وتقدير حاجاته تقديرًا صحيحًا بعيدًا عن ضغطه أو الخوف منه هو المرحلة الأولى في إعطاء الحكم فيما يُستجدُّ فيه من مسائل, وهذا الأمر-أي الفهم- وإن كان الكل يدّعيه لكن الشواهد تشير إلى أن الكثير بعيدون عنه, وهذا يُرجعنا إلى ما ذكرناه في صدر هذا اللقاء من اشتراط صحة التصورات ومن ثم صحة التصديقات ويليها صحة الجمع بين هذه التصديقات للوصول إلى المعرفة الصحيحة, وتحدثنا عن بعض وسائل الحصول على كل ذلك, وما نلاحظه في هذه المسألة أن ما أشرنا إليه من وسائل المعرفة الصحيحة لا يُستخدم كثيرًا لدى أكثر القراء والكتاب، مما يؤكد أنهم لم يعُوا حقيقة الواقع، وإن زعموا أنهم في كل ما يقولونه صادرون عن استيعابه.

٦ من ٦

العناصر اللازمة لفهم الواقع

استعرضنا في هذه السلسلة من المقالات مفهوم "التوازن الفكري", و"آليات التوازن الفكري", و"العقل" و"الوحي" كطرق لإحداث نسبة بين التصورات, وهنا وفي المقال الأخير من هذه المجموعة, نستعرض العناصر اللازمة لفهم الواقع.

ويمكن القول: إن فهم الواقع يحتاج أولاً: إلى الوعي بتاريخ المجتمع الفكري، وهو تاريخ تشترك في تكوينه لدى كل الأمم جذورها العرقية وبنيتها الاجتماعية ومصادرها الدينية ومراحلها الاقتصادية والسياسية في كل ما مر عليها من أعصار, وعدم استكمال ذلك في معرفة تاريخ الأمة الفكري سيؤدي حتمًا إلى معرفة مشوهة بهذا التاريخ, وإلى استنتاج مغلوط للواقع الفكري.

كما يحتاج فهم الواقع ثانيًا إلى تصور صحيح لما يحيط بالأمة من مخاطر, لأن المبالغة في تقدير الأخطار إما أن توقع في اليأس والتشنج والاضطراب وإما أن توقع في المبالغة في التعبئة لهذه الأخطار، وكلا الأمرين ينحّيان الفكر بعيدًا عن استيعاب الحقيقة والحكم بها.

وثالثًا: مما نحتاج إليه في فهم الواقع: معرفة حقيقة احتياجات الناس لتسيير شؤون حياتهم ومطالبهم الآنية وآمالهم وطموحاتهم المستقبلية، وعدم معرفة ذلك على وجه الحقيقة يمنع من تلبية المستقيم من هذه المطالب, كما يحول دون تصحيح المعوج منها ومعالجة أسباب الاعوجاج.

والذي أتصوره: أن هذه الأمور الثلاثة وما يتعلق بها, يُحكم عليها عند الأكثرين اعتمادًا على الانطباعات التي طريقها النظرة الفردية المعتمدة على التجارب الشخصية والرؤية الخاصة, مع أن المسلك الصحيح هو استخدام الأسلوب العلمي عن طرق البحث العلمي والتتبع الاستقرائي بكل ما يمكن من طرق صحيحة وعصرية للاستقراء.

وليس في المطالبة بفهم الواقع تضييع للنصوص أو تضييق عليها؛ بل إن في فهم الواقع تنزيلاً للنصوص في منازلها الصحيحة, وهذا هو حقيقة ما يغيض أعداءُ نصوص الوحي أن يستخدم النص في موضعه المناسب له.

فالفقهاء قد اتخذوا العرف دليلاً والعادة محكمة, وقالوا بتغير الفتوى بتغير الأمكنة والأزمان.

<<  <  ج: ص:  >  >>