الإشكالية الثانية: المبالغة والتهويل في الأفكار؛ فحين يطالع القارئ بعض نتاج الخطاب الإصلاحي يدرك بشكل ظاهر المبالغة في تصوير أفكاره وتعظيمها إلى درجة عالية، فيخيل بعضهم للقارئ بأنه لا نجاة له إلاّ بأفكاره، وأنه لا طريق للغد المنشود إلاّ بمنهجيته، ومن أجل سيطرة الروح الغالية عليه أخذ يتخذ مواقف ليست معتدلة من كل من ينازعه، وهذا ما دعا بعض النقاد إلى وصف الخطاب الإصلاحي بأنه يسعى إلى صناعة الأعداء، فمثلهم -عنده - كمثل قوم صنعوا سفينة، وطلبوا من الآخرين الركوب معهم، ووصفوا من رفض الركوب بكل ذميمة، ولم يقدّروا أعذارهم؛ فلم يقدروا من اعتذر لأن لديه سفينة أخرى، أو من اعتذر بأنه لا يثق بسفينتهم حتى الآن، أو أن لديه تحفظات عليها.
وهذا ما يفسر لنا موقف بعض المتبنّين للخطاب الإصلاحي من الخطاب السلفي؛ فإنك تلمس فيه التشنج والقصد إلى الذم، حتى إنه يصل إلى درجة الاستفزاز، فلا يكاد يكتب مقالاً أو بحثاً إلاّ وفيه التعرض للخطاب السلفي من قريب أو من بعيد.
وفي تصوري أن عدداً من المتبنين للخطاب الإصلاحي ساعد بقدر كبير على صناعة الجو المشحون في واقعنا الفكري، حتى إنه ليُخيّل للقارئ أنه يعتقد أن الخطوة الأولى لمشروعه هي مواجهة الخطاب السلفي، مع جزمي بأن كثيراً منهم لا يعتقد ذلك، ولكن خطابهم هو الذي تسبب في حدوث ذلك الاعتقاد.
وتُعدّ المبالغة بصورتها السابقة أحد الأسباب - لا كلها - التي جعلت بعض نقاد الخطاب الإصلاحي يقول: إنه يبعض الوحي، وأنه يغالي في بعض جوانبه إلى درجة جحد الأبواب الأخرى، وأنه يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، أو يقول: إنه يعاني من اختلال مقاييس الأولويات، ويخالف فيها النصوص الشرعية، التي دلت على أن العقيدة من أهم ما يجب أن يحافظ عليه المسلم، أو يقول: إنه يحقر من التخصصات الأخرى، ولا يلقي لها بالاً ويعدها من الفضول، أو يقول: إنه يعاني من الأحادية الإصلاحية، فلا يرى إصلاحاً إلاّ عن طريق السياسة فقط، أو يقول: إنه يقلب الموازين فيحوّل الوسائل إلى غايات والغايات إلى وسائل، كما حوّل الحرية إلى غاية بدل تحكيم شرع الله تعالى.
ولا أريد هنا أن أؤكد وجود هذه الانتقادات لدى الخطاب الإصلاحي أو أنفيها، وغاية ما أريده تلمّس بعض الأسباب التي أدّت إلى أن يتصور النقاد تلك الأقوال.
وتُعدّ تلك المبالغة أيضاً أحد الأسباب في ظهور لغة الهمز واللمز والاتهام المتبادل بين الطرفين - الخطاب الإصلاحي وبعض نقاده -، وهي كلها أعراض مرضية لا تبشر بمستقبل مشرق.
الإشكالية الثالثة: الانطلاق من النقد؛ فالقارئ لنتاج الخطاب الإصلاحي يُخيّل إليه أن بعض أفراد الخطاب غلب عليه الجانب النقدي والاشتغال بركام الآخرين، والبدء باستثارة المخالفين ومواجهتهم، والتنقيب عن أخطاء الآخرين وتسليط الأضواء عليها، وهذا لا شك أنه مخالف لمنهجية البناء الصحيحة؛ فالمشاريع الإسلامية البنّاءة تحتاج أول ما تحتاج إلى بناء الأسس الشرعية والفكرية، وتثبيتها، وفي تصوّري أن هذا لم يحصل في الخطاب الإصلاحي، بل إنه تجاوز إلى النقد اللاذع للخطاب المتهم بالعقيدة أو بالفقه أو بغيرهما من مكونات المشروع الإسلامي الكبير في أحيان كثيرة، وهذا الحال أوقعهم في تناقض منهجي؛ وذلك أن الخطاب الإصلاحي - كما أعلن عن نفسه- يتبنى قضايا التعايش والنهضة، ولكننا نُفاجأ بأن التعايش يخبو أو يختفي في التعاطي مع مقالات ومواقف المختصين بالعلوم الشرعية.