هذه تَقْدمة منهجية هامة في كيفية التعاطي مع ما يُسمّى بمشروع الإصلاح، بتمظهراته العديدة، إذا تمثلناها وجعلنا معانيها حالة ملموسة في واقعنا الفكري سترتقي خطاباتها، وتتجه نحو النضج والالتزام بالقيم المنهجية الصحيحة.
وبما أن خطاب الإصلاح يُعدّ تجرية تخصصية مشروعة، فمن الواجب علينا النصح له والسعي في تقييمه وإصلاح ما فيه من خلل؛ لأننا بذلك نتعاون في بناء مشروعنا الإسلامي الكبير.
ولأجل تحقيق هذا الغرض كانت هذه القراءة النقدية التي تقصد إلى إبراز أهم الإشكاليات المنهجية الواقعة في الخطاب المهتم بالنهضة والحضارة، وهذه الإشكاليات أدّت في -تصوّري- إلى ظهور بقع رمادية في صورته، وضبابية في بعض مستنداته، وتعثّر في بعض مسيرته، مع أن هذا الخطاب تتبناه عقول كبيرة، لا يشك أحد في مشربها الإسلامي، ولا في قصدها، ولا في حرصها ولا في ديانتها، وبالتالي فالكلام ليس متوجهاً إلى أشخاصهم، وإنما إلى نتاجهم.
وليس من أساليب المنهجية الصحيحة الناضجة أن نبتدئ في تقييم الأفكار بتقييم قائليها، بل الواجب ابتداء الانطلاق إلى الأفكار نفسها؛ إذ هي محل القبول والرد والصحة والفساد والمدح الذم.
وقبل الخوض في تلك الإشكاليات لا بد لنا من التنبيه على أن المقصود بوجود تلك الإشكاليات وجودها بشكل ظاهر في جملة الخطاب الإصلاحي لا في كل نتاج من نتاجاته.
الإشكالية الأولى: خفوت النَّفَس الشرعي؛ فالمتابع لنتاج الخطاب المختص في النهضة والحضارة ومتعلقاتها يتبدّى أمام ناظريه ضعف النفس الشرعي فيه، وخفوت المنطلقات الشرعية التي تمثل البنية التحتية للمشروع، ومن المعلوم أن المشاريع الإسلامية العميقة التي يُراد منها إنقاذ المجتمعات من كل مخالفة شرعية، والتي تقصد إلى بناء رؤية شرعية ناضجة، وتروم إلى أن تتجذر في مجتمع إسلامي تسود فيه الحالة التي كان يعيشها الرعيل الأول، لابد أن تتشبع بالروح الإسلامية غاية التشبع، ويظهر ذلك جلياً في تقريراتها وتأصيلاتها.
ولا أقصد هنا بالنفس الشرعي أن تكون المقالات والبحوث محشوة بالآيات والأحاديث فحسب، فهذا الأمر مع أهميته ليس هو المقصود هنا، وإنما المقصود أن تتشرب بحوثنا وأفكارنا بالروح الشرعية التي تجعلها خاضعة لمنطقاتها ودلالاتها ومقتضياتها في كل تفاصيلها، وأن نسعى إلى استقراء نصوص الشريعة، ونحرر الدلالات والأصول والمبادئ التي اشتملت عليها، مما هو دال على مشروعية "الفكرة الحضارية في الإسلام"، ويحدد مكوناتها.
وقد تسبب هذا الخفوت في حدوث إفرازات معرفية وتعاملية وفكرية كانت محل انتقاد ومثار تساؤلات حول مدى تأثير المستندات الشرعية في بناء بعض أفكار هذا الخطاب، وتسبب أيضاً في وقوع مصادرات لبعض القضايا التاريخية، كقول بعضهم: إن الفكر الإسلامي تمّت صياغته في العصر العباسي، ثم لم يزل يقلد ما صيغ في ذلك العصر، ومن يطالع كتب ابن حزم أو ابن تيمية أو الشاطبي ونحوهم من المحققين يجد أن هذا التوصيف غير متطابق مع الواقع، فإنهم تجاوزوا نتاج القرن الثاني والثالث، ولم يتوقفوا على مجرد تقليده فقط، بل توجّهوا إلى نصوص الشرع مباشرة، وتعاملوا معها تعاملاً مباشراً.
وهذا الخفوت هو أحد أهم الأسباب - لا كلها- التي جعلت عدداً من المهتمين بالخطاب الشرعي يقول: إن الخطاب الإصلاحي ينطلق - أو هو متأثر - بمستندات غربية لا إسلامية، أو يقول: إن الخطاب الإصلاحي لديه تعالٍ على النصوص الشرعية وعدم تعظيم لها.
ونحن هنا لسنا في سياق إثبات هذه الانتقادات لدى الخطاب الإصلاحي أو نفيها، وإنما في سياق إبراز تجلّيات الخفوت الشرعي في الخطاب الإصلاحي.