أصبح الناس يبيعون المنهج، ويتنكرون له مقابل سلامتهم وبقاء زخمهم ..
أين من يقول كما قال ابن الزبير:
اقتلوني ومالكاً .. واقتلوا مالكاً معي
حين أقدّس المنهج، وأدافع عنه لن أضحي به مقابل سلامتي .. حتى وإن استُخدم المنهج ضدّي، حتّى وإن كان المنهج سيفاً يتسلّط به البغاة على أهل الحق، فإنّ الحق يظل حقاً وإن وظّفه الباطل.
نعم .. إذا تيقنت أنّي سأكون ضحيّة تطبيق المنهج الحق والإشادة به والدعوة إليه فليكُن، ولتذهب حظوظ النفس إلى الجحيم ..
لا يجوز أن يكون المنهج رهناً لرياح التغيير التي تهب علينا من هنا وهناك ..
ورحم الله سفيان الثوري إذ قال: «إذا رأيتموني قد تغيرت عن الحال الذي أنا عليه اليوم، فاعلموا أني قد بَدّلتُ».
الأمر الثاني:
قيل: إنّ ذبابة سقطت على نخلة، فلما هَمّت الذبابة بالانصراف قالت للنخلة: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت النخلة: انصرفي أيتها الذبابة، فهل شعرت بك حينما سقطت عَلَيّ لأستعدّ لك وأنت راحلة عني؟!
تذكرت هذا المثل حين أصرّ بعض من كان في المجلس على تضييق حدقة الحوار وتصويبها على من ابتُلي ببغضه، ودون تقليل من قدر الزميل المحتقن فإنّي أقول هذا متذكّراً حجم الخلل الواقع في فهمنا أو تطبيقنا لأصول شرعية عظيمة ومنها أصل هجر المخالف والكلام فيه؛ إذ كثيراً ما نمارس هذه الأصول بلا ضوابط، ممّا يفقدها أثرها، هذا إن لم تعُد بنتائج عكسية أصلاً.
فهذا الأصل الشرعي العظيم دخله الخلل من جانبين: أحدهما أنّه كثيراً ما يوُظّف لتفريغ الشحن النفسي لدى الهاجر والمتكلّم؛ إذ يشعر بغيظ وحقد لشخص يخالفه فيفرّغ هذه العواطف السلبية تجاهه عبر هجره والقدح فيه، دون مراعاة لضوابط الهجر الشرعية، وهو في هذا غير مأجور إن لم يكن موزوراً، حتى لو فرض صحة موقفه، كما قال ابن تيمية رحمه الله: «الهجرة الشرعية لابد أن تكون خالصة لله، موافقة لأمره؛ فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً من هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانّة أنها تفعله طاعة لله».
والجانب الآخر أنّ الهجر والكلام في المخالف لا يكون ذا فاعليّة إلاّ إذا كان الهاجر ذا مكانة عند المهجور والبيئة التي يعيش فيها، مكانة علميّة أو اجتماعية أو ولاية شرعية أو غير ذلك، ممّا يؤدي إلى تأثّر المهجور بالهجر فيراجع نفسه، أو تتأثر به البيئة فيتابعونه في الهجر، فمن المضحك حقاً أن يمارس الهجر فئات ليس لها في الساحة صدى، وهي تدّعي أنّها تقوم بحماية جناب الشريعة، والذي حصل في مثل هذه الحال أنّ أثر الهجر عاد على الهاجرين أنفسهم، فأصبحوا وحدهم فئة معزولة لا تأثير لهم في الآخرين؛ ففقدوا رافداً من روافد نفع الآخرين، وتركوا الساحة لمن يرونهم مبتدعة، وهذا خلاف مقتضى الفقه الصحيح؛ إذ كثيراً ما تكون المشاركة بالّتي هي أحسن أولى من الهجر والمنابذة دون تفريط في بيان كلمة الحق والإنكار على المخطئ.
أخيراً فإنّه كثيراً ما يكون الهجر وممارسته نابعاً من إعجاب الشخص بنفسه وظنّه أنّ له من الوزن ما يحقق به هدفاً تربوياً رادعاً وزاجراً، وتراه يفعل ذلك متقمصاً قميصاً أكبر منه، مع أنّه في الحقيقة لو تدبّر في حقيقة نفسه ووزنه لعرف أنّه يرقص في الظلمة -كما يُقال- إذ ربّما يهجر ويعود عن هجره، ثم يهجر ثمّ يعود، ومع ذلك فإنّ أحداً لم يشعر به حين أقبلَ، كما لم يشعر به لمّا أدبَر.