وثمة فرق آخر بين الرأي العام والفكر, وهو: أن الأخير يُراد به تصورات نخبة معينة من المثقفين، أما الرأي العام فالكل يشارك في تكوينه، وهذا الفرق قد لا يكون دقيقًا, بل قد يكون غير مسلم به لأنه يحتاج إلى ضبط المراد بهؤلاء النخبة التي تستحق أن تستأثر بتسمية إنتاجها الذهني فكرًا, مع أن البشر بشكلٍ عام لديهم نزعة فطرية نحو الحق, بمعنى أن الجميع يريد الحق فيما يعرض له من قضايا, ولا فرق في ذلك بين النخبة وغيرهم, بل قد تكون النخبة أقل ميْلًا إلى الحق من عامة الناس, باعتبار أنهم أكثر تعرُّضًا للهوى الفكري والانتماء المدرسي من غيرهم, أما من سواهم فإن لديهم تسليمًا لا شعوريًَّا بأنهم لا يمتلكون أدوات معرفة الحق في القضايا المتعلقة بالتصورات التفصيلية للواقع، ومن ثَم الحكم من خلالها, وذلك لأن مصدر المعرفة المتفق عليه هو الحس أو ما يقوم مقامه, فلما كان الحسّ متعذِّرًا في الغالبية الساحقة من قضايا الحياة العامة إلا على أناس محدودين جدًّا, فإن الغالبية الساحقة يعطون ثقتهم لمن يتصورون أنه قد وصل إلى المعلومة بطريق الحس أو بأقرب الطرق إلى الحس, وأن هذا الموثوق صادق معه إما لملازمته لصفة الصدق أو لأنه صاحب مصلحة في الصدق, ولعل قول الله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يصدق هذه الفكرة، فالناس بشكل عام ليس لديهم أدوات العلم بمعنى القطع والتحقق مما يسعون إلى التحقق منه.
ولهذا نجد أن إقبال الناس على القيادات الفكرية إقبال طبعي، لا يحتاجون إلى مَن يدلهم عليه بل ربما صح القول بأنه فطرة, فالناس إذا لم يجدوا أمامهم مؤهلًا لقيادتهم فكريًّا صنعوا لهم قائدًا على مواصفاتهم الخاصة, ولعل هذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئِلوا فأفتَوْا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا.
ولك أن تتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: "اتخذ الناس" فالناس إذا لم يكن المؤهل لقيادتهم فكريًّا أمامهم اتخذوا من تلقاء أنفسهم قائدًا فكريًّا ولو لم يكن مؤهلًا، والناس يعرفون الموهوب والذكي ومَن يملك القدرات الثقافية والخطابية التي تمكِّنه من التأثير وجذب الأتباع, لكن ليس كل مَن يستطيع تكوين قاعدة جماهيرية بهذه الصفات هو الأمثل حتمًا لقيادة الأمة فكريًّا.
ولعلها تتاح مناسبة للحديث عن الأمثل للقيادة الفكرية, وإن كنت قد تطرقت لشيء منه في برنامج ساعة حوار على قناة المجد الفضائية.
٢ من ٦
آليات التوازن الفكري
وأعود هنا للحديث عن قولي السابق: ومن مفارقات الفكر: أن سلوك طريق واحدة فيه -ولو كانت صحيحة- لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة, وهي مشكلة فلسفية قديمة أدت بكثير من الفلاسفة إلى القول بتعدد الحق؛ نظرًا لعجزهم عن تفسير اختلاف الآراء في القضية الواحدة مع اتحاد منهج البحث فيها.
وهم يعنون بالحق المتعدد تلك النتائج المختلفة التي يصل إليها المفكرون عند استخدامهم الآلة الصحيحة لبلوغ الحق, وهي التي يسميها علماء أصول الفقه: (أدوات الاجتهاد) والتي بَنَوْا عليها قضيتهم الشهيرة: هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد وغيره معذور, حيث لا يعنون بالمصيب والمعذور من يتسوَّرُون على المسائل ويعطون فيها أحكامًا دون أن يكون طريقهم لذلك الآلة الصحيحة للاجتهاد.
ورأي الأصوليين وإن كان سياقهم له في قضايا الفروع الفقهية التي يسوّغ فيها الاجتهاد إلا أن القاعدة صحيحة يمكن أن تنقل إلى جميع فروع الفكر الذي قدّمت تعريفه بأنه التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما، من حيث كنهُه وعوامل تكوينه ومآلاته وطرق تحسينه وعلاج آفاته.