وهذا المثال طبّقه على سائر مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- التي غضب فيها وأظهر فيها اهتماماً واضحاً في مسائل جزئية فقهية يحتمل الخلاف فيها، وقارنها بحال المجتمع النبوي الذي يحيط به أصناف الكفار، وفي داخله أعتى المنافقين، ويعج بالفقراء والمعوزين، ومع ذلك كله يهتم النبي بجزئيات المسائل ويرد على أناس من الداخل الإسلامي ذاته.
وإذا شاء القارئ الفاضل المزيد من هذه النماذج فيمكنه مراجعة بابٍ لذيذٍ إلى الغاية عقده عبقري السنة الإمام البخاري في صحيحه باسم (باب الغضب في الموعظة والتعليم) وهو موجود في الصحيح في (كتاب العلم) فقد ساق فيه شواهد نبوية على اهتمام النبي وغضبه في مسائل جزئية، وعلى أية حال فكتاب العلم في صحيح البخاري إذا تأمله طالب العلم وجد أنه يحسم كثيراً من مسائل النزاع في المنهج الدعوي لأهل السنة.
خذ مثالاً آخر، حين مات النبي -صلى الله عليه وسلم- كان جيش أسامة لغزو الروم قد عقدت رايته، وفي الداخل الإسلامي ظهرت طائفة تنكر وجوب دفع الزكاة لأحد بعد رسول الله، فجهز أبوبكر الجيوش لقتالهم، برغم أنهم يعلنون أنهم مسلمون ويقولون "لا إله إلا الله"، لكن لديهم تأويل لآيات الزكاة بأن المخاطب والمختص بأخذها هو النبي لا غيره فكانوا يقولون: كيف يحق لأبي بكر أن ينزل نفسه منزلة النبي في هذه الفريضة؟!
وقد شرح الإمام ابن تيمية تأويلهم فقال (وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا: إن الله قال لنبيه "خذ من أموالهم صدقة" وهذا خطاب لنبيه فقط، فليس علينا أن ندفعها لغيره، فلم يكونوا يدفعونها لأبي بكر ولا يخرجونها له) [الفتاوى، ٢٨/ ٥٤٢]
فهؤلاء منتسبون للإسلام، ومتأولون لا في أصل الزكاة، بل في حق أبي بكر باستلامها، حتى أن بعض كبار الصحابة أشكلت عليه المسألة بادئ الأمر كما قال عمر (كيف تقاتلهم وهم يقولون لا إله إلا الله)، ومع ذلك فقد جرد ابوبكر سيفه وجهز الصحابة لقتالهم، بكل ما يتضمنه القتال من سفك الدماء وغنيمة الأموال.
فلم يقل ابوبكر: جيش أسامة على تخوم البلقاء يقاوم الروم النصارى، ونحن نقاتل متأولين في مسألة فيها احتمال! بل علم بفقهه الدقيق أن مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة في تحريف الإسلام من الداخل في مثل هذا الظرف لا تقل عن أهمية مواجهة النصارى.
فلو طبقنا المعيار الفكري بأن (المواجهة على قدر الانحراف) لقلنا أخطأ أبوبكر، لأن مواجهة نصارى الروم وهم كفار أصليون محاربون أولى من مواجهة متأولين في الداخل المسلم يقولون لا إله إلا الله، فضلاً عن مقاتلتهم!
لكن لو طبقنا المعيار الشرعي بأن (المواجهة على قدر الحاجة إلى البيان) لاستوعبنا حنكة أبي بكر ودقة فقهه وعمق علمه بدين الله، ولذلك تكلم علماء الإسلام كثيراً عن البركات التي حصلت بعزمة أبي بكر على قتال المتأولين في الزكاة.
ويمكن أن نشاهد هذا المعيار السني في تطبيقات الصحابة بشكل عام، كمثل تشديد ابن مسعود على المتأولين في الذكر الجماعي، وتشديد ابن عمر على المتأولين في كون المعاصي مقدرة (وهم الذين سموا القدرية لاحقاً) برغم أنهم لم ينكروا أصل القدر، بل تأولوا بعض معناه فقط، وبرغم أنهم ينتسبون للعلوم الشرعية كما يصفهم الراوي في صحيح مسلم حين جاء يسأل ابن عمر (فقلت أبا عبد الرحمن: إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف)، ومع ذلك كله قال فيهم ابن عمر مقالته الشديدة المعروفة.
فهل يصح القول: كيف يشدد الصحابة على هذه الاجتهادات في التأويل ويدعون الملاحدة واليهود والنصارى والمجوس والولاة الظلمة والمظالم المالية؟!