بحسب معيار الطوائف الفكرية المعاصرة، نعم، فإن معيارهم سيقودهم إلى التورط بإدانة الصحابة ذاتهم، لكن بحسب المنهج الدعوي عند أهل السنة فهذه المواقف الصحابية معدودوة في مناقبهم ومن شواهد عمق فقههم وعلمهم.
وهكذا -أيضاً- انظر في أقوال الأئمة الأربعة في بدعة تأويل الصفات الإلهية، وكيف كانت مواقفهم الشديدة التي وصلت للحكم بكفر المعين أو لعن المعين على أمثال الجهم بن صفوان وعمرو بن عبيد وحفص الفرد ونحوهم (وأقوال السلف في هذا الباب مجموعة في العلو للذهبي واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم).
فهل يمكن أن نقول للأئمة الأربعة - أبوحنيفة ومالك والشافعي واحمد- أنتم تصرفون جزءاً من وقتكم في التشديد البليغ على من يتأول بعض نصوص الصفات وهي مسائل تحتملها لغة العرب، وتتركون الملاحدة واليهود والنصارى والفساد السياسي في عصوركم؟!
هذه الطوائف الفكرية تنتج معايير ولا تراعي أن معاييرها تقودها إلى إدانة السلف ذاتهم! وهم يتفاوتون في الموقف من ذلك، فبعضهم يطرد قاعدته وأصله ولا يبالي إن كانت قاعدته تقتضي انتقاص السلف واستجهالهم واستبلاههم، وبعضهم فيه بقية دين فيتحاشى أن يطبق قاعدته على عمل السلف، ويفضل أن يعيش بهذا التناقض على أن يواجه لوازم قاعدته.
ومن تطبيقات هذه الإشكالية: ظاهرة "الإباحية الفقهية" المعاصرة، وهي أن بعض أصحاب تدجين الخطاب الدعوي المتصدرين في الفضائيات اليوم صاروا يسلكون منهج "تتبع رخص العلماء وزلاتهم والفتيا بها" بشكل واضح، بل وباندفاع في هذا المجال وتصفيق إعلامي ملفت، وصار عند هؤلاء "لجان علمية" وظيفتها البحث في كل مسألة عن من أباحها من أهل العلم للفتيا بموجب ذلك، لجان يسمونها علمية كل وظيفتها "البحث عن مبيح"!، وتتاح لهم برامج أوقات الذروة ليحقنوا المسلمين المستهدفين بزلات العلماء، كان الله في عوننا نحن المشاهدين المساكين، فبدلاً من أن نجد علماً يحي قلوبنا، صرنا نجد شبهات تربت على أهوائنا لنستكين على وضعنا، شخصيات تصدرت للناس بدلاً من أن تكون وظيفتها إحياء الإيمان في النفوس، صارت وظيفتها توهين التدين في نفوس الناس، وتوفير مبررات الفتور التعبدي والبرود الدعوي.
المهم .. أنه إذا قام أحد علماء ودعاة أهل السنة ببيان الانحراف في عين فتوى بذاتها، أو تجاه مسلك هذا الرجل بعمومه، قاموا عليه وأخذوا يتساءلون باستغراب: تترك العلمانيين وتأتي لهذا المنتسب للدعوة؟! هذا خلاف فروعي لا يستدعي منك أن تكتب في بيانه؟! تترك المخالف في الأصول ترد على المخالف في الفروع؟! ونحو هذه العبارات.
وإجابة على هذه الدعوى يقول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله مبيناً أن الحاجة للبيان في مثل هذه المسائل قد تفوق الحاجة للبيان في بعض مسائل العقيدة الظاهرة لكل أحد، كما يقول رحمه الله:
(فإن فتوى من مفتٍ في الحلال والحرام، برأيٍ يخالف السنة أضر عليهم من أهل الأهواء, وقد ذكر هذا المعنى الإمام أحمد وغيره, فإن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت, وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة، بخلاف الفتيا فإن أدلتها من السنة قد لا يعرفها إلا الأفراد، ولا يميز ضعيفها في الغالب إلا الخاصة, وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير) [الكبرى، ٦/ ١٤٤]
فبالله عليك تأمل في عمق هذا الفقه، حيث جعل الرد على بعض الفتاوى الفروعية التي شذت عن طريق أهل العلم، قد تكون أولى بالبيان من بعض البدع الكبرى، لأن الأولى خفية والثانية ظاهرة، فجعل المعيار رحمه الله ليس حجم الانحراف، بل مدى حاجة الناس للبيان.
وثمة مقولتان للعلامة المتفنن بكر أبوزيد كلما قرأتهما رقصت جوانحي طرباً لهما، وما رأيت كلام هذه الطوائف الفكرية في هذا الباب إلا تذكرت عبارته يرحمه الله، وهاتان العبارتان كلاهما مذكورتان في كتابه "الردود"، فأما العبارة الأولى فهي قوله رحمه الله وغفر له:
(إذا رأيت من رد على مخالف في شذوذ فقهي، أو قول بدعي، فاشكر له دفاعه بقدر ما وسعك، ولا تخذله بتلك المقولة المهينة " لماذا لا يرد على العلمانيين") [الردود، بكر أبوزيد، ٤٩]
وأما العبارة الثانية فهي قوله رحمه الله:
(فقل لي بربك: إذا أظهر المبطلون أهواءهم، والمرصدون في الأمة: واحد يخذّل، وواحد ساكت، فمتى يتبين الحق؟) [الردود، بكر أبوزيد، ١٧] وعلى أية حال .. أولئك الذين يلومون علماء ودعاة أهل السنة على مقاومتهم للانحرافات المنهجية -حتى المنتسبة منها للفكر الإسلامي- بحجة أن مقاومة اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين أولى إنما يتمسكون بحجة مؤداها الإزراء بجهود النبي وأصحابة وأئمة الهدى من بعدهم في العناية بسائر تشريعات الإسلام كليها وجزئيها، وأن جهود البيان والرد عندهم ليست مرتبطة بحجم الانحراف، بل مرتبطة بمدى حاجة الناس للبيان.
والله أعلم.