للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن تيمية: «وأما التحرك بمجرد الصوت فهذا أمر لم يأت الشرع بالندب إليه، ولا عقلاء الناس يأمرون بذلك، بل يعدُّون ذلك من قلة العقل، وضعف الرأي، كالذي يفزع عن مجرد الأصوات المفزعة المرعبة» (١).

وتحاكي الأناشيدُ الحاضرة الغناء المعهود، بل تماثله مماثلة القُذَّة للقُذَّة، بحيث يتعذر على أرباب الإنشاد والمونتاج التفريق بينهما فضلاً عن غيرهم!

فهذا النشيد الموسيقي والغناء:

رضيعا لبان ثدي أم تقاسما

بأسحم داج عَوْضَ لا نتفرقُ

ومع هذه المماثلة الظاهرة إلا أن بعضهم يصرُّ على تفريق موهوم بين إنشاده وغناء المجون، فليحذر من هذا التحايل البغيض والذي اتسع خرقه، وتتابع نقضه، فتلبَّس أصحابه بسماع الغناء الحرام مع المخادعة والاحتيال.

قال أيوب السختياني: يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان. ولو أتى الأمر على وجهه لكان أهون عليّ (٢).

وها هو ابن القيم يحذِّر من التوثُّب على محارم الله - تعالى - باسم الحيل، فيقول: «فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يوماً تُبلى فيه السرائر، ويحصّل ما في الصدور .. هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون» (٣).

ويتعلَّل بعض المولعين بالنشيد المتهتك بأن أصل النشيد مباح، فهي أصوات بشر وشجر ونحوهما، وتم تركيبها ومعالجتها حسب تقنيات الحاسوب .. وهذا تعليل عليل؛ إذ العبرة بالحقائق، ومآلات الأمور، فقد استحال هذا النشيد إلى غناء ومعازف، كما لو استحال العنب إلى خمر، وهذه المعالجة الحاسوبية أوقعت في تلاعب بالأصوات وتغييرها من صوت بشر وشجر وماء .. إلى صوت معازف وموسيقى ..

فهذا الغناء الحاضر مركب من تلك الأصوات بعد تعديلها ومعالجتها .. فالعبرة بالنتائج وعواقب الأشياء، كما قال ابن الجوزي: «ولما يئس إبليس أن يسمع من المتعبدين شيئاً من الأصوات المحرمة كالعود نظر إلى المعنى الحاصل بالعود فدرجه في ضمن الغناء بغير العود وحسَّنه لهم، وإنما مراده التدرج من شيء إلى شيء. والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج، وتأمَّل المقاصد» (٤).

وكما يُحكى عن إياس بن معاوية (ت ١٢٢هـ) أن رجلاً قال له: ما تقول في الماء؟ قال حلال. قال: والتمر؟ قال: حلال. قال: فالنبيذ تمر وماء! فقال له إياس: أرأيت لو ضربتُكَ بكفٍّ من تراب أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن ضربتُكَ بكفٍّ من تبن أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن ضربتُكَ بماء أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن أخذتُ الماء والتبن والتراب فجعلتها طيناً، وتركته حتى جفَّ، وضربتُكَ به أقتلك؟ قال: نعم! فقال: كذلك النبيذ.

ومقصوده أن القاتل هو القوة الحاصلة بالتركيب، والمفسد للعقل هو القوة المسكرة الحاصلة بالتركيب (٥). فكذا النشيد الحاضر بعد التركيب؛ فقد تغيَّرت صفاته السابقة، وانمحت آثاره السالفة.

وأخيراً: فإن فتنة الأصوات والصور المحرمة قد وَلِعَ بها كثير من أرباب التعبُّد المحدث، وإن كانت فتنة الصور أشد فتكاً، ولئن سلم فئام من المتديِّنة من شراك الصور الفاتنة، لكن أسرتهم الأصوات الملحنة؛ فإن غناء المجون وفتنة الأصوات سبيل الولوج في فتنة الصور، فالغناء رقية الزنى ..

قال ابن القيم: «أهل الأصوات طرقوا لأهل الصور الطريق، ونهجوا لهم السبيل، وطيَّبوا لهم السير، فساروا وجدّوا بهم إلى مطارح الجمال، فطاب لهم اللعب، ووصفوا لهم سمر القدود وورود الخدود وسواد العيون وبياض الثغور، ونادوا (حيَّ على الوصال)، فأجاب القوم منادي الهوى إذ نادى بهم بحيَّ على غير الفلاح، وباعوا أنفسهم بالغبن، وبذلوها في مرضاة الصور الجميلة» (٦).

والمقصود أن هذا النشيد «المستنسخ» من الغناء حافل بمفاسد ظاهرة؛ كالصدِّ عن سماع القرآن، والإعراض عن التفقه في دين الله تعالى، واستثارة العواطف الرعناء، وتحريك الشهوات من مكانها، والتحايل على المحرمات، ومشابهة لحون أهل الفسق والفجور .. فهل من توبة نصوح عن ذاك الغناء؟!

ولقد أحسن القائل:

«برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا

وكم قلتُ يا قوم أنتم على ... شَفا جُرُف ما به من بِنَا

فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في بِنَا

فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تِنْتِنا تِنْتِنا (٧).


(١) الاستقامة ١/ ٣٧٤، وانظر: مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية ٢/ ٣١٣.
(٢) انظر: مجموع الفتاوى ٣٠/ ٢٢٣.
(٣) إعلام الموقعين: ٣/ ١٦٣؛ باختصار.
(٤) تلبيس إبليس، ص ٢٤٩.
(٥) السماع، ص ٣٦٢ = باختصار. وانظر: الاستقامة: ١/ ٣٤٦.
(٦) انظر: الاستقامة لابن تيمية: ١/ ٢٤٤.
(٧) إغاثة اللهفان ١/ ٣٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>