وبيان ذلك أن دلالة الحديث الأصلية في شقه الأول هي: طلب النساء للعلم الشرعي وتخصيصهن بذلك دون الرجال، ولهذا ترى البخاري يبوب عليه فيقول: باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم.
فإذن ليس هو في حكم الاختلاط ابتداء - وهذا ليس بشرط للإحكام ولا لعدمه ولكنه قرينة - بخلاف النص الأول فإنه في أمر الاختلاط ابتداء وهذا على كل حال وجه ترجيح لا ينبغي إغفاله.
كما أنه من المحتمل أن تكون هذه الحادثة قبل فرض الحجاب أصلاً.
وليس في النص دلالة على عدم وجود الحجاب بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين النساء رضي الله عنهن.
والفارق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين بقية الرجال من جهة التقوى والعصمة وغض البصر وغير ذلك لا ينكر الأمر الذي يصعب معه الاقتداء، والحكم بالجواز، هذا لو سُلِّم كل ما تقدم.
وقد يقلب المانعون ظهر المجن للمجيزين فيقولون لهم: هذا النص دليل على منع الاختلاط لا إباحته.
وبيان ذلك أنه لو كان الاختلاط جائزاً، وكان هو الأصل لكان حال النساء في الأخذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسؤاله كحال الرجال، فلم يكن هناك غالب ومغلوب، (وهو ما يحدث في مقاعد الدراسة المختلطة) ولقيل لهن: تعالين وساوين الرجال في مكانكن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو اجلسن بين ظهراني الرجال، أو تقدمن عليهم.
ولا شك أن هذا يتضمن توفيراً للوقت وللجهد، قائد الأمة بأمس الحاجة إليه - صلى الله عليه وسلم -.
كما أن ما ذكر في الحديث في شأن من فقدت أولاداً يشمل الرجال والنساء فهو ليس شأناً نسائياً محضاً فيقال تخصيص النساء لهذا السبب.
وبالجملة فهذا النص هو إلى منع الاختلاط أقرب منه إلى إباحته، نعم لكنه ليس في صراحة النص الأول للمانعين، وهو - فيما يتعلق بأمر الاختلاط - من المتشابه الذي يجب أن يُردّ إلى المحكم، وصدق شيخ الإسلام حين ذكر أن ما يستدل به أهل البدع من المتشابه يكون فيه ما يُردُّ به عليهم. لكنهم في غمرة البحث عن دليل يسعفهم يضلون عن التنبه لما يَرِدُ عليهم.
وأحسب أن القارئ الكريم قد ظهر له بالمثال شيئاً من كيفية تمييز النصوص المتشابهة، فليكن هذا منه على بال فإن كثيراً من الاستدلالات المعاصرة هي من هذا القبيل.
وإنه لمن المخجل محاولة التشغيب في أمر الاختلاط في الوقت الذي يحكي فيه العلماء الإجماع على حرمته، فهذا أبو بكر العامري يؤلف رسالة في الرد على بعض مدّعي الزهد ممّن أباح لنفسه النظر للنساء وجمع الرجال والنساء في مجلس واحد بزعم أنه لا بأس في ذلك في مجلس الذكر!
فيقول: (ثم قد اتفقت علماء الأمة أن من اعتقد حل هذه المحظورات وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب فقد كفر واستحق القتل بردته، وإن اعتقد تحريمه وفعله وأقر عليه ورضي به فقد فسق لا يُسمع له قول ولا تقبل له شهادة فضلاً عن أن يُظن به ز هادة أو عبادة ... ) ثم يُبيّن المفاسد في هذا الأمر فيقول: (فيه معاصٍ لا تُحصى منها أنه إذا اختلط الرجال بالنساء وجمعهم موضع واحد ونظر بعض إلى بعض وقع في قلب الرجل شيء من المرأة وفي نفس المرأة شيء من الرجل ... ) إلخ.
ويبيّن العامري: أنه يحرم على السلطان إقرار مدّعي الزهد إغواءه (الشباب ... وبعض النسوان بالاجتماع في مجلس واختلاط بينهم في عشرة أو سماع بنفوس جاهلة وقلوب غافلة ... وليس هناك وازع من دين أو علم أو تقوى ويوهمهم ذلك الشيخ الملبّس ما أوهمه إبليس أن القلب سليم وليس فيه غش ولا معصية فلا يضر هذا الحضور والاجتماع). وما بين الأقواس من كلامه. أحكام النظر إلى المحرمات ص ٨١ - ٨٤.