وعلامة الهند السيد صديق حسن خان الحسيني (ت:١٣٠٧هـ) قال في شرحه لصحيح مسلم (٥/ ١١٣): (وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة ووقع في عصره صلى الله عليه وآله وسلم وقرره النبي عليه السلام فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه، ولم يقر أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره، ولم يشرِّعه لأحدٍ من أمته لا قولاً ولا فعلاً، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزور أهل البقيع وغيرهم من غير سفر ورحلة إلى قبورهم، فسنته التي لا غبار عليها ولا شنار فيها: هي زيارة القبور من دون اختيار سفر لها، لتذكر الآخرة) أ. هـ
وعلامة العراق السيد نعمان بن محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (ت:١٣١٧هـ) قال في (جلاء العينين) (ص٥١٨) بعد أن انتصر لرأي ابن تيمية: (ونهاية الكلام في هذا المقام: أن شيخ الإسلام لم ينفرد بهذا القول الذى شُنِّع به عليه، بل ذهب إليه غيره من الأئمة الأعلام)
فهؤلاء ليس فيهم نجديٌّ واحد.
وقد أعرضت عن أدلة يستشهد بها الطرفان لكن لا تُسلَّم لهما، وأُسُّ الخلاف هو ما ذكرته.
فمن أدلة المجيزين أحاديث فضل زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وكلها ضعيفة لا يصح منها شيء ولو صحت فهي خارج محل النزاع، ومنها ما يروونه من (أن بلالاً رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الشام في منامه وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟!، فانتبه حزيناً خائفا فركب راحلته وقصد المدينة) قال الحافظ ابن حجر: (هذه قصة بينة الوضع)، وغيرها.
ومن أدلة المانعين التي أعرضت عنها أثر أبي بصرة الغفاري وإنكاره على أبي هريرة رضي الله عنهما ذهابه إلى الطور وقد تتبعت روايات هذا الأثر فوجدته ليس في محل النزاع، فذهاب أبي هريرة رضي الله عنه إنما كان لمسجد هناك ثم إنه وافق أبا بصرة بعد ذلك.
أمَّا زيارة أماكن السيرة النبوية كغار حراء وجبل أحد وغيرهما بقصد التعبد والتقرب إلى الله تعالى فبدعة لا تجوز، ولم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل ذلك، ولم يُنقل عن أحدٍ من صحابته رضي الله عنهم أنه فعل ذلك وهم أعلم الناس بدين الله وأطوعهم إلى الله عز وجل، وفي الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) متفق عليه.
أما إن لم يكن على سبيل التعبد كأن يكون للاستعانة بزيارتها في فهم حوادث السيرة كالغزوات وغيرها كما يفعله بعض المربين والمعلمين فلا بأس بذلك، حيث إن الأصل في الأفعال على غير وجه التعبد الجواز وعلى وجه التعبد المنع، لكن يشترط لجواز زيارتها شروط، منها:
١ - ألا يلتزم بالزيارة في أوقات معينة وبصورة وهيئة معينة حتى لا تشبه العبادة.
٢ - ألا يتعمد أداء عبادة عندها كصلاة أو ذكر أو دعاء أو قصد التبرك بها.
٣ - أن يتمكن من إنكار المنكر من بدع أو شركيات - إن وُجِدت- بالضوابط الشرعية المعتبرة، فإن لم يستطع فعليه مغادرة المكان فذلك أضعف الإيمان.
أما عدم ثبوت زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام لهذه الأماكن فإنه لا يدل على حرمتها فهذا إنما يقال فيما كان على وجه التعبد.
لكن قد يقال: إن زيارة مثل هذه الأماكن ذريعة للشرك، فيجاب بأن مجرد الزيارة ليس ذريعة للشرك إلا إذا هُيِّئت هذه الأماكن بحيث تصبح أماكن زيارة وسياحة يأتيها الناس أفواجاً ويقصدونها قصداً فمثل هذا الفعل قد يؤدي إلى جعلها مزارات، فسدُّ هذا الباب متعيِّن، وهناك فرق بين هذا وذاك لمن تأمله.
والله أعلم