للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما دخل الإشكال على البعض في هذا الباب حين ظنوا أن البدعة لا تدخل إلا عملا يراد به القربة؛ كالصلاة والصيام والحج، وقد بينت في بحث نُشر على الشبكة بعنوان: (ضابط البدعة وما تدخله) ما يدل على بطلان ذلك؛ فآمل مراجعته؛ لأن تصور مسألة هذا السؤال لا يتم إلا بتصور هذه المقدمة العظيمة.

وقد دلت الشريعة في باب الأعياد على صحة هذا الاتجاه؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما فِي الجاهلية؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر". رواه أبو داود في "سننه" (١/ ٢٩٥).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: " يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -.

فقوله: "أبدلكم" دليل على إبطال كل عيد وإلا لزادهم من أعياد الإسلام دون إبطال الأعياد الحالية. وقوله: "عيدنا أهل الإسلام" دليل على أن ما سواها أعيادُ غير أهل الإسلام.

ثم تأيدت هذه الأدلة بالهدي الظاهر للسلف؛ فلم يظهر في ديار الإسلام بعد إيقاف الرسول صلى الله عليه وسلم الأعياد السابقة، وإبدالها بأعياد الإسلام أي عيد طيلة القرون الثلاثة المفضلة تعبدية كانت أو عادية، حتى أحدث العبيديون عيد المولد؛ وذلك رغم أن للأمم المجاورة أو المخالطة للمسلمين أعياداً تعبدية وعادية؛ يقصد منها الاحتفاء بزمان أو شخص؛ كعيد الشعانين ومولد عيسى عليه السلام للنصارى، والنيروز للفرس وغيرها من الأعياد؛ لاسيما والأمة فِي هذه القرون كانت تأخذ الكثير من المفيد النافع من الأمم الأخرى؛ فتركها لهذه الأعياد رغم وجودها دليل على إعراضها عنها ديانة.

ولو قال قائل: إن هذا إجماع لكان له وجه، وحتى لو لم يصح إجماعا فإنه ظاهر جلي في فهم السلف لهذه النصوص، وأنها تدل على عدم مشروعية الأعياد المحدثة.

هذا وليس من الأصول المعتبرة ولا المشارع الصحيحة عند أهل العلم إجراء القياس فيما سبيله التعبد المحض؛ لوجوه:

الوجه الأول: أن إجراء القياس مسألة عقلية، والعبادات مبناها على التعبد المحض المنافي للمناسبات العقلية التفصيلية؛ فلا قياس.

وبيانه أن القياس يقوم على إعمال العقل لاستنباط العلة من الأصل المقيس عليه، وإعمال العقل مرة أخرى لتحقق وجود هذه العلة فِي الفرع المقيس له.

فحيث لم يُعقل المعنى امتنع القياس فِي جعلها أصلاً أو فرعاً.

قال النووي فِي "المجموع" (٣/ ٣٤٢): ( .. الصلاة مبناها على التعبد والاتباع والنهي عن الاختراع , وطريق القياس منسدة .. ).

وقال الشاطبي فِي "الاعتصام" (٢/ ٦٢) عن العبادة: ( .. ولذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها .. ).

وقال البهوتي فِي "كشاف القناع" (٢/ ٤٧٨) ( .. ولا يصح القياس إلا فيما عُقل معناه، وهذا تعبدي محض).

وانظر "البحر المحيط" (٧/ ١٣٣) "، و"شرح الكوكب المنير" (٥٣٧).

الوجه الثاني: أن الصحابة والتابعين والعلماء في القرون المفضلة لم يستعملوا القياس ليصححوا عبادة جديدة أو يزيدوا فيها بذلك.

الوجه الثالث: أن من شرط صحة القياس أن لا يعارض نصاً من الكتاب أو السنة، وكل قياس لإنشاء عبادة أو الزيادة فيها فهو معارِض للنص القطعي العام المانع من الإحداث.

فالعبادة المحضة التي تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف مع قيام المقتضي لفعلها وانتفاء المانع منه هو كالنص منهم على النهي عن ذات الفعل فيُعتبر القياس معارضاً لهديهم؛ فهو باطل.

<<  <  ج: ص:  >  >>