للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولقد كانت تلك العبارة تشدني كثيراً، وتلوح لي عند كتابة أي حرف على قرطاس، وكم استوقَفَتْ نفسي لتتصارع معها فيما يخطه المداد، هل سيذهب أدراج الرياح، أم سينفع الله به، وهي هموم تجول في خواطر أولي النهى على ما اعتادته النفوس البشرية وهو أمر طبعي، لكن النفوس المريضة التي تبحث عن الشهرة- لا جعلنا الله منهم- تجول في خواطرها كم عدد القراء؟، وماذا يكون رد فعل الجمهور؟، وتتطلع إلى ثناء الناس ومديحهم، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: (ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك نيته؛ لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له، ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك ... فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعاً؛ لأنه غير مقبول عند الخالق ولا عند الخلق؛ لأن قلوبهم قد ألفتت عنه، فقد ضاع العمل، وذهب العمر) (١).

وأما أولي الخفاء والإخلاص فإنهم يقذفون بالحق بإخلاص غير مبالين بما يقوله الأنام، فينفع الله فيه، ويدمغ به الباطل بقدر إخلاصهم ويقينهم حين تصنيف الكتاب.

ولقد أوضح الإمام مالك رحمه الله لكل مؤلف ومصنف بعده منهجاً كان مرسوماً ممن قبله، يقوم على أن أي كتاب يراد له البقاء على مر العصور فلا بد أن يكون القصد فيه لله دون قصد الثناء أو الاعتلاء على أكتاف الآخرين، والله عليم بذات الصدور، ولما صدق مالك مع الله في كتابه هذا أبقاه الله، وبقدر إيمان العبد وإخلاصه في التأليف يقع به النفع، ويكون البقاء، فإن عظم إخلاصه كثر ذكر كتابه وتردده على الألسن، وكلما ضعف الإخلاص ضعف تأثير الكتاب في الناس، وقل ذكر الألسن له.

والإخلاص كما يقول أهل السلوك درجات بعضه فوق بعض، وليس على مرتبة واحدة، وما كان للشيطان فليس له دوام، ولكنه زبد يذهب جفاء: (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ... )، قال الجاحظ واصفاً بعض الكتاب: فتأمَّل الكتَّاب ... إن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزَّبد يذْهب جُفاءً، وكنبْتة الربيع يُحرقها الهيْف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقةٍ، ولا يدينون بحقيقةٍ؛ أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون) (٢).

كما أوضح لنا الإمام مالك في مقولته تلك أن من أخلص عمله لله وقصد بكتابه وجه الله لم يلتفت إلى كلام المثبطين، ولم يخش لوم اللائمين، ولا نقد الفارغين؛ لأن من خاف ملامة الناس ترك كثيراً مما كان لله فيه رضا، وكان خوفهم فوق خوف ملامة الله، وهذا ما عمله الإمام مالك حيث لم يلتفت إلى كثرة الموطآت في المدينة، ولم يعر للنقد بالاً، ولم يقعده التثبيط عن تصنيف موطئه.

ولا يعني بحال أننا نجزم أن كل كتاب نفع الله به ظاهراً أن صاحبه كان به مخلصاً، ولا أي كتاب اندثر ولم يبق، أن في إخلاص مصنفه شيئاً؛ لأن أعمال القلوب علمها عند علام الغيوب، فقد يكتب الله البقاء الدائم لكتاب أراد مؤلفه منه الشر أو الحياة الدنيا أو ضعف إخلاصه فيه، ويُقيّض الله له من يعتني به ابتلاء وامتحاناً لمؤلفه أو لآخرين، وقد يكتب الله لكتاب آخر الفناء والانقطاع السرمدي ابتلاء وامتحاناً، أو رحمة لمؤلفه، وليس لضعف في إخلاصهم، وهذا الظن في السلف وكتبهم التي لم يكتب لها البقاء مثل موطأ ابن أبي ذئب وابن وهب وغيرهم.


(١) صيد الخاطر ص ١٢٢
(٢) الرسائل ص ١٢٧

<<  <  ج: ص:  >  >>