وبهذا يتبين أن سيادة الأمة تجاوزت اختيار الأفراد للحكم كآلية من خلال الانتخاب إلى أن أصبحت السلطة العليا التي بيدها السيادة المطلقة ومنها تشريع القوانين، وهذا هو جوهر الفلسفة الديمقراطية التي كان يرفضها بعض التنويريين قديماً لأنها تعطي حق التشريع لغير الله تعالى.
ومن الخداع والمغالطة تسمية اختيار الناس لمن يحكمهم من خلال الانتخابات "سيادة"، وتقديمها على الشريعة، ثم حكاية كلام من يبيحها على أنه يرى "السيادة للأمة"!!، لأنه يمكن أن يتم اختيار من يحكمهم مع كون الشريعة هي صاحبة السيادة والهيمنة والحاكمية، فالأول عمل إجرائي تنظيمي مجرد له صور مختلفة منها الصحيح ومنها الزائف، أما منازعة سيادة الشريعة وحاكميتها فهو مناقض لأصل الإيمان.
كما أن من المغالطة قول القائل "سيادة الأمة بمرجعية الشريعة"، فالسيادة هي المرجعية العليا للسلطات الثلاثة (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، فكيف تكون سيادة بمرجعية وهي ذاتها المرجعية؟! وبهذا يتميز من يجعل المرجعية للشريعة ممن يجعل المرجعية للأمة.
ومن يجعل السيادة للأمة لا يمانع من الإيمان القلبي والنظري بأحكام الشريعة، ولكنها لا تكون نافذة إلا من خلال مرجعية الأمة، وهو يرى أن من حق الأمة أن تختار ما تشاء، فهذا حقها وهذه حريتها، وعليه فلو اختارت الأمة إباحة المحرمات الظاهرة، وعدم الالتزام بالواجبات الظاهرة فهو حق مشروع لها لأنها صاحبة السيادة، وهذا التأسيس لاستحقاق الأمة السيادة المطلقة هو الحكم بالطاغوت لأنه استحلال للمحرمات الظاهرة، وترك الواجبات الظاهرة حتى لو لم يفعلها، وهذا هو الحكم بغير ما انزل الله، واستحلال القوانين الوضعية، وهي الإشكالية الكبرى بين الإسلام والعلمانية في العصر الحديث.
يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري (وهو أحد كبار القانونيين العرب، وغير محسوب على التيار السلفي): "روح التشريع الإسلامي يفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في كل المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن، وسنة رسوله المعصوم الملهم ثم إجماع الأمة" (فقه الخلافة وتطورها ص ٧٠)
سيادة الشريعة وهيمنتها أصل الإسلام
تأمل قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٩]
فلو قارنا بين هذه الآية وفكرة تقديم سيادة الأمة على تحكيم الشريعة فإننا سنجد أن دعوى سيادة الأمة المقابلة للشريعة هي المعبر عنها في قوله {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وقوله عنهم {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وهذا يدل على أن من قدم أهواء الناس على شريعة رب العالمين فقد عرض إيمانه للتلف وإسلامه للبطلان.
فالمناقض لأصل الإسلام أن تكون الشريعة مرهونة بأهواء الناس قبولاً أو رداً، وتكون آراء الناس هي الحاكمة بشرعية النظام الذي يحكمهم، ويقضي بينهم.
وحاكمية الشريعة والقبول بالإسلام والتسليم له لا يجوز ان تكون مرتهنة لأحد بل وجوب العمل بها متقدم على كافة الحقوق الفطرية والإنسانية، وحاجة الإنسان إليها أكبر من حاجته إلى الطعام والشراب والهواء.