لم يعد هناك فرق جوهري بين الفكر العلماني والتنويري حول الموقف من سيادة الشريعة، فالأمر المحوري بينهما أن السيادة ترجع للأمة وليست للشريعة، وهي السلطة العليا التي تعود إليها جميع السلطات الثلاث، وبهذا فهي تملك حق التشريع، والجهة المخولة في إصدار القوانين سواءً وافقت الشرع أم خالفته، وهذا يشمل التشريعات الإدارية التنظيمية كما يشمل التشريعات القضائية التي تشمل التشريعات الجنائية والشخصية والمالية وكافة أنواع التشريعات التي تخص الحكم بين الناس، كما تشمل السياسات العامة التي تعود إليها كافة أنشطة الدولة .. وهذه التشريعات صاحب السلطة والسيادة فيها هو الله جل جلاله، وإعطاء الأمة حق التشريع فيها هو الحكم بغير ما انزل الله، وهو التحاكم إلى الطاغوت، لأن الحكم لله تعالى، وتحقيقه من العبادة لله تعالى، يقول تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[يوسف: من الآية٤٠]، ويقول تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء: من الآية٥٩]، وهذه النصوص هي في الحكم بين الناس، وليس في العقائد الإيمانية القلبية، وهي في التطبيق للشريعة وليس في اعتقاد الشريعة.
وقد كان الخلاف مع التنويريين أول الأمر حول آليات الديمقراطية ومدى موافقتها للمقاصد الشرعية، ولكنهم تجاوزوا ذلك إلى المطابقة التامة للعلمانيين في جعل السيادة للأمة وهي الجهة العليا التي تعطي الشرعية للشريعة أو غيرها، وبهذا لم يعد هناك فرق بينهم وبين العلمانيين إلا في الاسم، وهذه نتيجة طبيعية لمن يجعل المفاهيم الوضعية حاكمة على الشريعة ثم يقوم بتحريف الشريعة لتتوافق معها، وهذا مخالف للمنهج الإسلامي الذي يجعل الشريعة هي الحاكمة، ثم يحكم من خلالها على المفاهيم الوضعية، كما أنها نتيجة طبيعية لمن جعل زاده الثقافي دراسات العلمانيين العرب، بل يروجها ويبيعها وينصح بها باسم الانفتاح!!
وقد هالني تمدح بعضهم وافتخاره بالانتقال الجديد في الخطاب التنويري من الكلام حول آليات الديمقراطية إلى الجدل حول سيادة الشريعة، وظنه أنهم أحدثوا نقلة في الخطاب السلفي حسب زعمه، وما درى أنها انتكاسة فكرية، وسقوط منهجي، وتحول خطير نحو العلمنة!! فأي فخر للانتقال إلى الأسوأ، وأي مدح في الحط من سيادة الشريعة؟!!
وهذه المنهجية المنحرفة هي التي جعلت التنويريين ينطلقون من منطلق علماني في اغلب المفاهيم السياسية الجديدة كمفهوم المواطنة، والحرية، والطائفية وغيرها، ففي هذه المفاهيم وغيرها يتم شرحها بما يتطابق مع الفكر العلماني تماما، فالمواطنة هي التعامل مع المكونات المجتمعية على أساس وطني مصلحي وليس على أساس ديني، والحرية هي عدم المنع للاختيارات الشخصية للأفراد ولو كانت محرمات ظاهرة، ويحق للفرد أن يعبر عن رأيه ومعتقده ويدعو إليه ولو كان كفرا صريحا (حرية المنافقين)، والطائفية هي التعامل مع التيارات الفكرية والفرق المخالفة للسنة من منطلق عقدي، وهذه المفاهيم المنحرفة يجمعها استبعاد المنطلق الديني، وتحجيم المنهج الإسلامي في التعامل الاجتماعي، وجعله اختيارا خاصا لا يتحرك في الحياة ويحكمها، وأخص مكونات الفكر الليبرالي العلماني نزع الإلزام في الشريعة الربانية، ولهذا فأخصر تعريف لليبرالية (منع المنع)، فماذا أبقى هذا التيار للفكر العلماني والليبرالي؟!
الأمة بين اختيار الحاكم والسيادة المطلقة:
يصر بعض التنويريين ممن لم يحدد خياره العلماني بعد على الخلط بين السيادة للأمة المتضمنة لحق التشريع المطلق كما قدمناه، وبين رفض الاستبداد والتغلب والتوريث، فيجعل من يرفض إرجاع تحكيم الشريعة إلى موافقة الأمة، وعدم استحقاقها للهيمنة على المجتمع إلا بعد إجازتها من الأمة .. يجعل ذلك في صف الاستبداد والتغلب والتوريث، وهذه مغالطة لان من يجعل اختيار الحاكم حق للأمة يجعل -أيضا- الحاكم والأمة التي اختارته تحت سيادة الشريعة وحكمها، فالحاكم وكيل ونائب عن الأمة في إقامة الدين وتحكيم الشريعة في الناس، ومعيار تحقيقه لمقتضى الوكالة هو التزامه بحكم الشرع في شؤونهم العامة والخاصة، وإذا لم يفعل ذلك يجب عزله وفسخ حكمه، وهذه قضية في غاية الوضوح في المنهج الإسلامي، وهي الفارق المنهجي بين دور الأمة في المنهج الإسلامي والمنهج العلماني.