لقد طالت هذه الانقلابات المفاهيمية: الموقف من التراث, والموقف من الغرب, والموقف من المؤسسات الدعوية, والموقف من خصوم الحل الإسلامي, والموقف من واقع مجتمعنا المعاصر, والموقف من الدولة العربية الحديثة
يدعو كثير من منتجي هذا الخطاب إلى قراءة "نصوص الوحي" ونصوص "التراث الإسلامي" قراءة مدنية, بمعنى قراءة "موجهة" تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم "المدنية" ثم تؤَوِّل مايتعارض معها, وتصبح فرادة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته في توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج, بدل أن تكون الدعوة إلى قراءة الوحي قراءة "صادقة" تتجرد للبحث الدقيق عن المراد الإلهي!
بمعنى آخر: تحويل الوحي من "حاكم على الحضارة" إلى مجرد "محام عن منتجاتها" يبررها ويدافع عنها ولا يُقْبَلُ منه دورٌ غير ذلك! وليس يخفى أن الحُكم نوع من السيادة، أما المحاماة عن الغير فحالة تبع يقاس نجاحها بإمكانيات التبرير والتسويغ.
والسؤال المؤلم الذي يفرض نفسه هاهنا: ما هي المساهمة الحقيقية التي يمكن أن نقدمها للعالم إذا كان قصارى ما نقوله للغرب هو إن ممارساتكم وسلوكياتكم يمكن تخريجها على بعض الأقوال الفقهية لدينا, أو يحتمل أن تدل عليها بعض الأدلة؟ هم يمارسون هذه الممارسات قبل أن يعرفونا أصلاً.
النماذج التفسيرية للظاهرة:
الواقع أن المراقبين والنقاد طرحوا تفسيرات كثيرة لظاهرة الانقلاب المعياري هذه التي أشرنا إليها, ومحاولات متعددة لاستكشاف النواة الجوهرية التي انبثقت عنها تطبيقات ومواقف وإحداثيات هذا الخطاب المدني المتطرف, فبعض النقاد يرى أن السبب هو "الانبهار بالغرب", والواقع أن الانبهار بالغرب أحد النتائج وليس العامل الحاسم كما سيأتي توضيح ذلك.
وبعض النقاد اعتقد أن الجذر الدفين في هذه الظاهرة هو "العقلانية"، والواقع أن هذه الظاهرة ليس لديها نظرية فعلية في "مصادر المعرفة" بحيث تقدم ما دلّ عليه العقل وترد ما عارضه, بل هي تارة مع العقل، وتارة مع النص، وتارة مع الذوق الشخصي، وتارة مع المألوف، وتارة ضد هذه كلها, فهي تدور مع المنتج الحضاري الجديد بغض النظر عن علاقته بمصادر المعرفة.
وبعض النقاد اعتقد أن هذه الظاهرة هي امتداد تاريخي لمدرسة "المعتزلة"، والواقع أن هذا التفسير قد أبعد النجعة كثيراً, فمدرسة المعتزلة هي مدرسة دينية متزمتة أخرجت الفساق من الإسلام, وشرعت للمنابذة المسلحة لأئمة الجور , فالمعتزلة مدرسة غلو لا مدرسة تساهل, بل إن المعتزلة أشرف بكثير من الخطاب الفرانكفوني المعاصر الذي يحاول الوصول إلى تناقضات داخلية في التراث الإسلامي بهدف تحييد الوحي جملةً عن الحياة العامة.
في تقديري أن النواة الخفية التي انطلقت منها كل هذه التحولات الجذرية والحادة في المواقف والرؤى هي "المغالاة في قيمة المدنية والحضارة", فالغلو في الحضارة والمدنية الدنيوية وتحويلها إلى القضية الأولوية وغاية الغايات، هو الجذر الرئيسي التي ابتدأت منه كل هذه الانقلابات المفاهيمية, بمعنى أن النموذج التفسيري الذي يقدم إجابة دقيقة حول تطبيقات هذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته "غائية الحضارة" و "مركزية المدنية".