هذا ما قاله الأستاذ الدكتور - سامحه الله -. وعن نفسي فإني لا أعرفُ أحداً من لدُنْ آدم وإلى اليوم يشتغل سنتين أو ثلاث بتدريس قضية خلق القرآن! بل هي مسألة ضمن أبواب الاعتقاد يمرُّ عليها الطالب المتخصِّص ويتعلمها في مجالس معدودة. غير أن ضِيقَ صدر الأستاذ بالمباحث العقدية هو الذي يدفعه لمثل هذا التهويل. وأغرب من تهويله قوله بثقةٍ تامةٍ:" ما عندنا أحد يقول بهذه القضية "!!
هذا الكلام من الدكتور يظهر منه أثر الاستغراق في "التحليل السياسي" وما يؤدي إليه من ضعفٍ في "النظر العقدي"، فالقول بخلق القرآن - لو علِمَ الدكتور - هو قولُ الشيعة الإمامية الذين منَعَنا من إزعاجه أثناء معالجته لمعضلتهم! الشيعة الإمامية، ومعهم الشيعة الزيدية، ومثلهم إباضية عمان والمغرب. دعْ عنك جملةً من زنادقة أدباء الحداثة الذين يعتبرون القرآن نصاً أدبياً مخلوقاً قابلاً للنقد. كل هؤلاء يقولون بخلق القرآن إلى اليوم. لكنَّ الأستاذ لا يدري عن ذلك شيئاً بسبب صندوق السياسة المحكم الإقفال الذي حبسَ نفسه فيه، فلم يعُدْ قادراً على معرفة ما في سائر الصناديق.
على أني أقطع أن دكتورنا حتى لو علِمَ بذلك، فلن يختلفَ موقفه. لأن المسألة عنده في الأصل ليست ذاتَ بالٍ. والمشكلة لديه لا علاقة لها بوجود تلك الأقوال أو انقراضها. بل هي نابعةٌ من خصلةٍ واضحةٍ لدى الدكتور تتعلق بضيق صدره بالمباحث العقدية.
عموماً، الدكتور يريد السياسة ولا شيءَ غير السياسة. هو يريد حديثاً عن (الحرية، وعن خطر الاستبداد السياسي، وعن الانتخابات والمشاركة الشعبية). فهذه القضايا هي العقائد القطعية والركائز اليقينية التي يقوم عليها بنيان الإسلام في نظر "المحلل السياسي". أما شهادةُ أن لا إله إلا الله، ونقضُ الشيعة لها بممارساتهم الشركية. وشهادةُ أن محمداً رسول الله، ونقضهم لها بعقيدة الإمامة والعصمة، فكلُّ هذا مما يمكن احتماله والتهوين من أمره، وبالإمكان اعتبار تفاصيله قضيةً تاريخيةً عفا عليها الزمن. لكن الذي لا يجوز السكوت عنه بحالٍ، هو "الانحراف السياسي"، وما يتفرَّع عنه.
وقد رأينا القصور في "النظر العقدي" يبرُز أثناء معالجة الدكتور "للمعضلة الشيعية". فحين تطفَّل على صندوق "العقديين"، وعاب عليهم رميَ الشيعة بالقول بتحريف القرآن، رأيناه يقول: إن هذا الموقف " في غاية الخطأ، لأسبابٍ: منها أن القرآن الذي يقرأه الشيعة اليوم هو القرآن نفسه الذي بأيدي المسلمين في كلِّ مكان. ومن شكَّ فليذهب بنفسه لأقرب تجمُّعٍ أو مسجدٍ أو منزلٍ لهم وسيجده القرآن الذي عنده ". فها هو ضعف "النظر العقدي" يتحدث عن نفسه. فالدكتور دخل للتحكيم في مسألة لا يملك تصوراً لأبعادها الحقيقية لأنها غير موجودة في صندوق السياسة الذي يهوى الدوران فيه.
هو ـ بالتأكيد ـ لن يستوعب مذاهب وآراء الشيعة في القرآن ما دام مستغرقاً في متابعة تصريحات "تشيني" و"مارتن إنديك"، وكتابات "فوكوياما"، ومقالات "فريدمان". الدكتور أتى هنا بحجةٍ يراها قاطعةً في تبرئة الشيعة من ظلم "العقديين". فهو يقترح أن يذهب "العقديون" لمساجد الشيعة وتجمعاتهم، وينظروا في مصاحف الشيعة ليتأكدوا أن الذي يقرأونه هو نفسه القرآن الذي يقرأه السنة. ولو أن دكتورنا أنصت قليلاً لإخوانه "العقديين" لربما أخذه الحياء من ذكر مثل تلك الحجة. فالعقديون يعلمون أن أكثر الشيعة القائلين بالتحريف يؤمنون بهذا القرآن الموجود عندنا. لكن موضع الإشكال أنهم يعتقدون نقصَه، وأن الصحابة الكرام حذفوا منه آيات ولاية علي بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ، وفضائل آل البيت، ومثالب الصحابة!