لكن الغرب رغم هذا التأييد الظاهر الذي كان لا بد منه يظل حائراً إزاء هذه الأوضاع الجديدة في العالم العربي: ما السياسات الجديدة التي ستؤدي إليها الحريات التي طالب بها المتظاهرون إذا صارت أمراً واقعاً؟ كيف يمكننا أن نتعاون مع برلمانات مكونة من أحزاب شتى لكل منها تأثير مهما كان ضئيلاً على سياسة البلاد؟ كيف سنتعامل مع حكومات قد لا تستطيع أن تجعل اتفاقاتنا معها باقية في حيز الكتمان في ظل المطالبة بالشفافية؟
ثم السؤال الأكبر: كيف سنتصرف وكيف ستتصرف إسرائيل مع أوضاع سيكون للتيارات الإسلامية فيها قوة وتأثير لا ريب فيه؟ لقد أظهرت هذه التظاهرات أن التيارات الإسلامية تزحف على كثير من الأراضي التي كانت تحتلها التيارات العَلمانية، إننا في الغرب لا نتصور أن تنطلق تظاهرات سياسية في القرن العشرين من أماكن للعبادة، لا نتصور - مثلاً - أن تنطلق تظاهرات سياسية من الكنائس بعد أداء القداس يوم الأحد، لكن هذا هو الذي حدث في العالم العربي في كل التظاهرات، لقد انطلقت كلها من المساجد وعقب صلاة الجمعة، بل إن أعداداً هائلة من المتظاهرين كانت تؤدي صلاة الجماعة في الميادين التي يطالبون فيها بالتغيير السياسي، والسلفيون الذين كانوا بعيدين عن السياسية قرروا الآن الدخول في حلبتها بشكل أو آخر، وهو أمر مقلق؛ لأنه سيزيد من قوة ما نسميه بالإسلام السياسي.
ماذا يفعل الغرب؟
هل يؤيد ما تطالب به ثورات الشباب من انتقال إلى نُظُم سياسية ديمقراطية؟ لكن هذا يثير مشكلات:
أوَّلها: أن الديمقراطية - كما يفهمها الغرب - مرتبطة ارتباطاً لا فكاك له بالعلمانية، إن الديمقراطية نظام يعطي السلطة التشريعية العليا للبشر؛ سواء كانوا أكثرية المواطنين أو أكثرية ممثليهم، لكن هذا في ما يبدو ليس هو الذي سيحدث في العالم العربي، كيف تكون السلطة العليا للبشر في بلد كمصر ينص دستورها على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام؟ إنه نص أقل ما يعنيه أن كل قانون مخالف لدين الإسلام سيكون قانوناً غير دستوري.
ثانيتها: أنه حتى لو افترضنا أن الديمقراطية صارت كما هو الحال في الغرب ديمقراطية عَلمانية، فإن أغلبية الشعب العربي الذى سيكون القرار في يده ليس شعباً متعاطفاً مع إسرائيل، كما أن أغلبية الشعب الإسرائيلي ليست متعاطفة مع العرب، وهذا يعني أن الدولة العربية الديمقراطية لن يكون من السهل عليها أن تنتهج السياسات التي يفضلها الغرب في العلاقة بين العرب وإسرائيل.
ثالثتها: أن الغرب حضارة وثقافة، وإن مما يخدم مصالحه أن تنتشر هذه الحضارة وأن تتبناها أكثر شعوب العالم؛ ولذلك تراهم يكثرون في هذه الأيام من الحديث عن كسب العقول والقلوب، ويحاولون جاهدين أن يُبرزوا كل مكوِّن من مكونات ثقافتهم على أنه ليس أمراً ثقافياً خاصاً بالغرب؛ وإنما هو قيمة إنسانية صالحة، بل لازمة للبشر كلهم، وهم يرون أنه بالرغم من أن الشعوب الإسلامية قد تأثرت تأثراً كبيراً كما تأثر غيرها بالثقافة والقيم الغربية؛ إلا أنها ظلت أكثر أمة مستعصية على الانفتاح الكامل لكل قيم لا تتناسب مع دينهم، ويستشهدون على ذلك بصمود المسلمين في وجه الزحف الأيديولوجي الشيوعي.
لكن إذا كانت الانتفاضات الشبابية قد أخذت بعض السمات الدينية، فهذا يعني أنه سيكون للصوت الديني أثر قوي في الدولة الديمقراطية.