للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما يدعيه دعاة التمثيل الإسلامي من ضوابط، غايتها أن تخفف من المحاذير التي يذكرها المانعون، وكم من باب من مداخل الشر فُتح بحجة وضع ضوابط وشروط، ثم كان ذلك سببا في فتح هذا الباب واقتحامه دون وفاء بتلك الضوابط حينا، بل ولا اعتبار لها أحيانا، فما تلك الضوابط إلا شبهاتٌ للتسويغ، ودفعٌ لحجة المانعين!

وبسبب ذلك صار حكم التمثيل قضية فقهية تتجاذب فيها أنظار الفقهاء بين التحريم مطلقا، والتفصيل.

ومن مسائل التفصيل تمثيل الصحابة رضي الله عنهم، وهي التي نقصد إليها في هذا المقام؛ فقد أجمع أهل الفتوى في هذا العصر ـ إلا من شذ ـ على تحريم تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم، فضلا عن الأنبياء، وكل ما يذكره المسوغون لتمثيل الصحابة يلزمهم أن يقولوه في الأنبياء، مع إضافة ضوابط أخرى.

وكل ما يذكرونه من مصالح تمثيل الصحابة يتحقق بذكر أخبارهم على ما جرت به العادة في سياق الأخبار، وإذا دعت الحاجة إلى مزيد الإيضاح كان ذلك بتمثيل الفعل لا بتمثيل الفاعل، والعادة أن ذلك يكون قليلا، مثل ما تكفي فيه الإشارة باليد.

وأما ما ذكروه من تمثل الملائكة لإبراهيم ولوط ومريم، وتمثل جبريل بصورة دحية، أو رجل غريب وكما في حديث الثلاثة؛ الأبرص والأقرع والأعمى، وتمثل الملك لهم؛ فكل ذلك مختص بالملائكة لا يقاس عليه؛ لأنهم غير متعبدين بشريعتنا، وهم يفعلونه بإذن الله، وقد جعل الله لهم القدرة على ذلك.

وبعد؛ فإذا ضربنا صفحا عن حجج المانعين لتمثيل الصحابة، وما ذكروه من المفاسد، وأعرضنا عن شبهات المجوزين؛ فإنه يبقى أن تمثيل الصحابة افتيات عليهم، وعدوان على حقهم، والواقع شاهد بأنهم لا يرضون بتمثيلهم، وتقمص شخصياتهم.

فنقول للمجوزين: أفترضون أن تمثل أشخاصكم بهيئاتكم، وتمثل حركاتكم، وأصواتكم؟! بدهي أنكم لا ترضون ذلك، لما ترونه من الكذب عليكم، والإزراء بكم، واتخاذكم لهوا ولعبا، ولهذا؛ فإن العقلاء والعظماء لا يرضون بتمثيلهم.

ومن هذا المنطلق نقول بتحريم تمثيل الصحابة، بل والتابعين، وسائر علماء المسلمين، مع اعتبار تفاوت منازلهم، مما يقتضي التفاوت في تحريم تمثيلهم.

والمتدبر لموضوع تمثيل الصحابة بتجرد يقطع بأن مفاسده ترجح على ما يُدعى فيه من المصالح، وهذا من مقتضِيات التحريم في الشريعة، بل هذا شأن أغلب المحرمات، والمترخصون في تمثيل الصحابة؛ إما أن يقولوا: إنه جائز فقط، فيجروا الناس، ويجرئونهم على باب من المشتبهات على الأقل؛ لأنه ـ واللهِ ـ ليس من الحلال البين، فيكون بابه على الأقل من باب سد الذرائع.

وإن زعموا أن تمثيل الصحابة مستحب؛ فقد تضمن قولهم أنه من الدين، وهو محدث، فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».

ومن قال: الأصل في تمثيل الصحابة الإباحة، فلم يراع اعتبار رضاهم، مع القطع بأنهم لا يرضون ذلك، كما هو شأن سائر العقلاء؛ لما في التمثيل من السخرية والإزراء، قُصد ذلك أو لم يُقصد. بل نقول: الأصل في تمثيل الصحابة التحريم؛ للزوم المفاسد العامة والخاصة له، فلا ينفك عنها، وما يدعى من المصالح لا تدانيها.

وكل ما يذكر في تمثيل الصحابة من المصالح والمفاسد يقال مثله في تمثيل علماء الأمة وخيارها، فيجب تجويز الجميع، أو تحريم الجميع، وإذا كان الجميع مطبقين على تحريم تمثيل الأنبياء؛ لعلو قدرهم، وهيبة مقامهم، ومنافاة تمثيلهم لذلك، فهذا يقتضي أن تمثيل الأنبياء كفر، لأنه يتضمن الاستهزاء بهم، وقد قال تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، ومن أطلق تحريم تمثيل الأنبياء، واقتصر على ذلك فقد أجمل، ولم يحرر حكمه، فيجب التنبه لذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>