٧ - وفي يوم قائظٍ من أيام آب اللهاب .. خرجتُ إلى الزبداني .. وصلتُ إلى نبعِ بردى .. شربتُ من عذب مائه حتى ارتويت .. وتجوّلتُ بمركب له مجاديف في بحيرتِه الصغيرة .. ثم انصرفتُ إلى مزرعةٍ قريبة تؤجر للراغبين .. جلستُ في عريش قد هيّؤوه .. والسواقي الباردةُ إلى جواري تدلُّ مياه بردى على أشجار الثمار المختلفة .. وأقبلت فتاتان صغيرتان اسم واحدةٍ منهما ميسون .. تعملان مع أهلهما في خدمة المزرعة .. وهما المسؤولتان عن واجبِ الضيافة .. رأيتهما تغسلان الآنيةَ من الساقي .. ثم تسيران إلى تلك الأشجارِ فتقطفان من ثمارها ما تطوله يداهما الصغيرتان .. حتى استتمَّ لهما سبعةُ أنواع أو ثمانية .. من أشهاها الكمّثرى وثلاثةُ أنواع العنب .. ثم ترشّان عليها ماء باردًا له لون بردى وطعمُه .. وتقدمانها لي .. ولا والله ما ذقتُ شيئًا أشهى أو هكذا يُخيّل لي .. وكأني أستعيدُ رشفَ بردى في تشكيلاته الجديدة ..
وما ذقت طعمَ الماءِ إلاّ استخفّني
إلى بردى و"الطفلتين" حنينُ
٨ - ولم أزلْ بعدُ في كل رحلاتي التي وصلتُ بها سِدني بـ"كندا" .. والبرازيلَ بأمريكا .. لم أزلْ أجد من أهل الشامِ علماء وصالحين تفرّقوا في الديار .. وتركوا لذّة العيش بأوطانهم مطرودين وملاحقين .. مُنيةُ الواحدِ منهم أن يروي ظَماه من بردى .. أو يعفّر جبهتَه بتراب الشام .. وفي كلمات أستاذ الحنين الشاميِّ الزركلي خير مثال عليهم .. وهو يترنم بهذه الأبياتِ .. يلفظ معها آخر أنفاسه على ضفاف النيل:
العينُ بعد فراقها الوطنا لا ساكنًا ألفتْ ولا سكنا
ريانةٌ بالدمع أقلقها أنْ لا تحسَّ كرًى ولا وَسَنا
يا موطنًا عبث الزمانُ به من ذا الذي أغرى بك الزمنا
عطفوا عليك فأوسعوك أذًى وهمُ يُسمّون الأذى مننا
وحنَّوا عليك فجرّدوا قضبًا مسنونةً وتقدموا بقنا
يا طائرًا غنّى على غصن والنيلُ يسقي ذلك الغصنا
زدني وهجْ ما شئتَ من شجني إنْ كنتَ مثلي تعرفُ الشجنا
أذكرتني ما لستُ ناسيَه ولربّ ذكرى جدّدت حزنا
أذكرتني بردى وواديَه والطيرَ آحادًا به وثُنى
وأحبةً أسررتُ من كلفي وهواي فيهم لاعجًا كمنا
كم ذا أغالبُه ويغلبني دمع ٌإذا كفكفتُه هتَنا
لي ذكرياتٌ في ربوعِهمُ هنَّ الحياةُ تألّقًا وسنا
ليت الذين أحبّهم علموا وهمُ هنالك ما لقيتُ هنا
وهكذا كان شأنُ الثلاثةِ الرفاق .. فأمّا ابن تيمية فقد حُبس بالقلعة .. وما كانوا يضطرون أحدًا للرحيل .. وبقي قبرُه عند التكيّة السليمانية .. يقول الأستاذ زهير أحمد ظاظا: في شتاء عام (١٩٩٦م) كنت أتجوّل في دمشق بالقرب من التكية السليمانية فاستوقفني سائح أوروبي يسألني بالعربية: هل يمكن أن تساعدني؟ فقلت له: على الرحب والسعة وفي ماذا أساعدك؟ فأخرج خريطة للمواقع الأثرية في مدينة دمشق وقال لي: أنا أبحث عن قبر ابن تيمية وحسب الخريطة يجب أن يكون هنا .. وأشار إلى مكان بالقرب من مشفى الغرباء بجانب كلية طب الأسنان القديمة ... ثم زرت قبر ابن تيمية فرأيت شاهدةَ القبر مكسّرة متناثرة حول القبر ولم يبق منها إلاّ كلمة (تيمية) والتقطت مجموعة صور للقبر ومعه قبر تلميذه ابن كثير .. أه .. وأمّا الطنطاوي فقد كتب الله له بمقبرةِ العدل مكانًا .. غريبًا هناك إلى جوار الكعبة في البلد الحرام قضى وهو يقول: "حرم الله الجنة من حرمني رؤية قاسيون" وأمّا نزارُ فقد فاضت روحه بعيدًا طريدًا .. ثم حنّوا على جسده .. فقبلوا دفنه إلى جوار والده تحت شجرة زيتون بالشام ..