فما سطّره الجويني يعدّ أنموذجاً مهماً في التعامل مع النوازل، وتحقيقاً لفقه الأزمات والأحداث الطارئة، ولئن كان نظام الطوارئ في الحكومات القمعية قد خلّف شللاً في الحياة، وخنوعاً وسلبية في المواقف والأحوال، فإن التجارب الرائدة والمبادرات العملية في تكوين اللجان الشعبية والتطوعية ونحوها من أجل إصلاح دنيا الناس ومعاشهم وتوفيراً منهم وقت الأزمات .. إن ذلك أورث تراحماً وتعاوناً واجتماعاً وتآلفاً.
وأخيراً: إن أحداث تونس ومصر كشفت عن أزمة في فقه السياسة الشرعية لدى فئام من إخواننا السلفيين، فهناك من هاله تتابع الخطوب وعجلة الأحداث، فآثر الصمت والعي، واستروح إلى السلبية والعجز، متدثراً بالرزانة والوقار ومجانبة الغوغاء والدهماء!
ورحم الله الإمام الشعبي إذ يقول: «نعم الشيء الغَوغاء، يسدّون السيل، ويطفئون الحريق، ويشغبون على ولاة السّوء».
وأشنع من ذلك أن يدّعي بعضهم أن هذه المظاهرات والاحتجاجات خروج على الإمام! فأين تذهب عقول هؤلاء! فهل ثبتت شرعية هذه الأنظمة العلمانية - التي تجاهر بمنابذة الشرع المنزّل في قونينها وواقعها - حتى يقال بالخروج عليها؟!
ورضي الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب القائل: «لابد للناس من إمارة برّة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البّرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء».
فانظر - رحمك الله - هل تحسّ بهذه الولاية الفاجرة في نظام تونس ومصر ونظائرها؟!
وكما قال ابن تيمية: «وجماع السياسة العادلة في أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل».
وهذه الأنظمة المذكورة وأشباهها قائمة على الخيانات والظلم والاستبداد.
ثم إن الخروج يكون بالسيف، وهذه المظاهرات والاحتجاجات قد جانبت القوة والسلاح، على عكس هذه الأنظمة البربرية التي لا تفهم إلا السحق والقمع، وأيضاً فإن هذه المظاهرات مطالبة بإقامة العدل وأداء الأمانات إلى أهلها، ومحاسبة اللصوص الكبار .. بل قد يتحقق لهم جملة من هذه المطالب - كما هو واقع مشاهد - وإن اكتنف هذه التجمعات بعض المفاسد والشرور، فإن مصالحها تربو على مفاسدها، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها.
وفي التاريخ وقائع متعددة من هذا القبيل، ومن ذلك أن في سنة ٣٠٨هـ ارتفع الغلاء والمكوس في بغداد، فاضطربت العامة لذلك، وأوقعوا شغباً .. وعندئذ أزيلت المكوس وهبطت الأسعار.
والحاصل أن على إخواننا السلفيين أن يراجعوا مواقفهم تجاه الأنظمة وبنظرة شمولية فاحصة، متحرين الفقه والدليل، والدراية بالواقع والحال، فكما يُتقى التهور وقمع السلطان، فكذلك يُتقى الركون للظالمين أو الذبّ عن الخائنين بلسان الحال أو لسان المقال والله المستعان.