وأما الفريق الآخر فقد لحظوا أن صدَّاماً بعد سقوط بغداد وهروبه ظهرت منه قرائن تدل على نوع تغير عنده: فقد قُبض عليه في مكان يدل على أنه كان يقرأ القرآن ويصلي فيه وحده أو مع نفرٍ قليلٍ من حرسه، وهذا ينفي عنه أنه كان يفعل ذلك على وجه العادة أو الخداع للشعب حيث لا شعب ولا دولة، وكذا ما نَقل عنه الأعداء والأصدقاء عن حاله في السجن من كثرة صلاته وقراءته للقرآن حيث لا يراه إلا الله عزَّ وجل وأعداؤه وهذا نقلٌ ثابتٌ لا يتطرق إليه الشك، وفي هذه الأثناء لا يُعرف عن الرجل أنه كان يدعو لمبادئ حزب البعث الكفرية مما قد يشير إلى أنه أقلع عنها، فمن كان يرى من أهل العلم أنه لابد من التبرؤ مما كان يعلنه من الكفر رأى أنه ما زال على كفره، ومن كان يرى أن الإقلاع عن الكفر وعدم الوقوع فيه مع قرائن أخرى تدل على إسلامه حكم بإسلامه ولو لم يتبرأ صراحة، فالمسألة اجتهادية.
ومن القرائن التي تدل على تغير صدَّام في أيامه الأخيرة، آخرُ وصية كتبها قبل إعدامه ففيها الكثير من التوجه إلى الله، والاستشهاد بالآيات، ولم يذكر حزب البعث ولا لمرة واحدة إلا إشادته بثورة ١٩٦٨م التي مكنته من مسك زمام الحكم في العراق.
وعندما سيق إلى المشنقة ولم يبق بينه وبين الموت إلا لحظات لم يتوجه إلى حزب البعث، ولم يذكره، بل ذكر الله وتوجه إليه، ونطق بالشهادتين في ظروف يعرفها من استمع إليها وشاهدها، ومثل هذا التشهد في مثل هذا الظرف يصعب أن يكون على وجه العادة، ولو قالها خوفاً من المشنقة لقلنا لمن كفره: أشققت عن قلبه؟ فكيف وقد قالها أمام من ساءهم نطقُه بها، وقد ثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة))، فالذي يغلب على الظن -والعلم عند الله- أن الرجل مات مسلماً تُرجى له الرحمة، وليس كلُّ من مات مسلماً يجب الترحم عليه، ورحمة الله واسعة ((وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل الجنة فيدخلها))
وأمَّا ما يذكره بعضهم من أن الحكم على صدَّام بإسلام يقتضي أنه كلما نطق مرتدٌ محاربٌ للإسلام بالشهادتين عند موته حكمنا بإسلامه، فجوابه: هل من كان حاله الكفر المحض عملاً واعتقاداً يثبِّته الله ويوفقه للنطق بالشهادتين عند وفاته وهو باقٍ على كفره؟ قال البغوي في تفسيره:((قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني قبل الموت، {وَفِي الآخِرَةِ} يعني في القبر. هذا قول أكثر أهل التفسير. وقيل:{فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} عند السؤال في القبر، {وَفِي الآخِرَةِ} عند البعث، والأول أصح.)) أ. هـ ولو سلمنا أنَّ ذلك جائزٌ عقلاً، أليس هناك فرقٌ بين من كان يصرح بالكفر حتى إذا ما أدركه الموت نطق بالشهادتين وبين من أظهر الإسلام قبل وفاته بزمن ولم يصرح بكفر ثم نطق بالشهادتين عند وفاته؟ أليس هذا من تثبيت الله له؟
وإني لأعجب من حماس بعض الناس لتكفير صدَّام، كما أعجب من حماس آخرين للترحم عليه والغلو في التعاطف معه حتى عدُّوه شهيداً! وهو لم يقاتل في سبيل الله يوماً واحداً في حياته، ناسين جرائمه وقتله لعلماء المسلمين، فما أضعف العقول!
وأيَّاً كان الأمر فالمسألة اجتهادية، وتوحيد القلوب أولى من اختلافها في الحكم عليه.