للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

= أمَّا استشهاده بأقوالٍ لأئمة السلف كمالك وأحمد والبخاري فقد قال - عفا الله عنه - (ص٢٥): ((ومشروعية التبرك بالأماكن النبوية هو مذهب البخاري كما ذكرنا - يعني تبويبه في كتاب الصلاة، باب: المساجد التي على طريق المدينة وسبق الرد عليه - ومذهب البغوي، والنووي، وابن حجر، بل هو مذهب الإمام أحمد «وقد استدل الإمام على ذلك بأن الصحابة كانوا يتبركون برمانة المنبر، يتبركون بالموضع الذي مسته يد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب مالك، فقد روى أبو نعيم في الحلية أن هارون الرشيد أراد أن ينقض منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتخذه من جوهر وذهب وفضة فقال له مالك: لا أرى أن تُحرم الناس من أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وسبق كلامه في استحباب صلاة النافلة في مكان مصلاه صلى الله عليه وسلم من مسجده)) أ. هـ. يعني بذلك ما ذكره (ص٢٠) أن مالكاً سئل أي المواضع أحب إليك الصلاة فيه؟ قال: أما النافلة فموضع مصلاه، وأما المكتوبة فأول الصفوف.

والذي يهمنا هنا هو النقل عن الأئمة الثلاثة مالك وأحمد والبخاري، وبغض النظر عن صحة أسانيد هذه الأقوال فأين هي مما يدعو إليه المؤلف من المحافظة على آثار النبي صلى الله عليه وسلم المكانية للتبرك بها؟! فكلام الإمام أحمد عن رمانة منبره صلى الله عليه وسلم وكلام الإمام مالك عن نقض المنبر هو عمَّا مسته يد النبي صلى الله عليه وسلم لا عن آثاره المكانية، فأين هو المنبر اليوم وأين رمانته؟!

أمَّا ما نقله عن الإمام مالك وأنه يرى أفضلية صلاة النافلة في موضع مصلاه فهذا على سبيل الاقتداء لا التبرك، وقد قال ابن وضاح القرطبي في البدع والنهي عنها (ص١٠٨): ((وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ماعدا قباءً وأحداً -يعني شهداء أحد)) وقال ابن بطال في شرح البخاري (٣/ ١٥٩) ((روى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يعجبني ذلك إلا مسجد قباء))، أما الإمام أحمد فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ٧٥٤): ((وأما أحمد فرخَّص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيداً، مثل أن تنتاب لذلك، ويجتمع عندها في وقت معلوم)) يعني حتى ما جاء فيه الأثر كمسجد قباء يشدد فيه أحمد إذا اتخذ عيداً، فماذا بعد ذلك؟!

ومن عجائب الشيخ في هذا الكتاب أنه يدعو إلى التبرك الآن بشرب ماء الآبار التي سقط فيها خاتم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً، قال - عفا الله عنه - (ص١٣): ((ومنه - أي التبرك - قصدُ الآبار النبوية التي نُقل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تفل فيها أو صبَّ وضوءه فيها، أو سقط شيء من متعلقاته فيها، كبئر أرِيس التي سقط فيها خاتمه بقصد التبرك بالشرب منها، فهذا أمر مشروع لأنه متفرع من مسألة التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق في الحكم بينه وبين وضوئه صلى الله عليه وسلم الذي كان الصحابة يتسابقون إلى التبرك به)) أ. هـ، وهذا لا أعرف أحداً سبق الشيخ إليه، وقوله: ((لا فرق في الحكم بينه وبين وضوئه))، غير صحيح فالصحابة رضي الله عنهم فَرَّقوا بينهما فكانوا يتبركون بوضوئه ولم يُنقل عنهم أنهم كانوا يشربون من ماء بئر أرِيس تبركاً بعد سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فيه من يد عثمان رضي الله عنه كما في الصحيحين.

والخلاصة:

أنَّ التبركَ بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الحسيَّة كبطنه وشعره ونخامته وكذا ما لامس جسده الطاهر الشريف كوضوئه وملابسه؛ صحيحٌ، قد فعله الصحابة ومِن بعدهم بعض التابعين ثم عفا الفعل كما عفا الأثر، وما قَصَدَه النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة أو الدعاء عنده من الأماكن كمسجد قباء ومقام إبراهيم فقصده للصلاة أو الدعاء اقتداءً به، سنةٌ مستحبة، أمَّا التبرك بها فبدعةٌ منكرة، وأمَّا ما لم يقصده من الأماكن فالصحيح عدم قصد الصلاة عنده إلا إذا وافق ذلك وقت صلاة، أمَّا وجوب المحافظة على الآثار النبوية المكانية لغرض التبرك عندها فلم يقل به أحدٌ من العلماء لا من السلف ولا من الخلف، وفتحه فتح باب شرٍ وفتنة.

والله أعلم وصلى الله على نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين

<<  <  ج: ص:  >  >>