ومن المفارقات أن الروافض قد تململوا وضجروا من وثنية أصل "الإمامة" عندهم, فأحدثوا تبديلاً وتمرّداً على ما أصّلوه كما صنع الخميني في "ولاية الفقيه", وفي المقابل فإن بعض متسننة هذه العصر قد اعتراهم هذا النَفَس الرافضي المتهافت من حيث لا يشعرون, فتراهم يقررون بلسان الحال أو المقال أن الإمامة مقصودة لذاتها, وأن للإمام "المنتهى" أو قريباً من ذلك!
وقد قرر المحققون من أهل العلم أن مقصود جميع الولايات أن يكون الدين كله لله عز وجل, وإصلاح دين الناس , فالولاة إنما ن ُ صبوا من أجل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو محرر في الأحكام السلطانية للماوردي صـ٥, والحسبة والسياسة الشرعية لابن تيمية بمجموع الفتاوى ٢٨/ ٦١ , ٢٦٢ والطرق الحكمية لابن القيم صـ٢١٧.
وقال الطيبي في شرحه لحديث "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"
"في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوباً لذاته, وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه" (فتح الباري ١٣/ ١٣)
ثم إن متسننةً قد خلعوا لقب "الإمام" و"أمير المؤمنين" ونحوهما على حكام يجاهرون بالعلمنة في السّراء والضراء والمنشط والمكره وينابذون الشرع المنزّل بل والمؤول, حتى أفتى بعضهم - في هذه الأيام - بقتل أحد المرشحين في الانتخابات, لأن في ذلك منازعة وافتياتاً على الإمام الأعظم, والذي قد أَذِن بمسرحية الانتخابات وأقرّها!
إنها بلاهة صلعاء وتزلف مقيت, وشماتة بأهل السنة والجماعة ولئن كان قمع الحكام واستبدادهم قد خلّف مهانة وخوراً عند قوم, كما أورث تملقاً ومداهنة ع ند آخرين, فلن تخلو الأرض من قائم لله بحجة من الذين يبلغون رسالات الله ولا يخشون أحداً إلا الله, ولئن عجز الكثير عن الصدع بالحق فلا أقل أن يسكتوا عن التلبيس وتزويق الباطل وتلميع الطاغوت.
ولئن كان بعضهم يتدثّر بلبوس خوف الفتنة .. فلا يُسوّغ ذلك أن تُضفى الشرعية الإسلامية على أنظمة علمانية صارخة في نظمها وموادها, وإنما جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها, فكما يتعيّن مجانبة التزلف الرخيص والإفك المبين وقلب الحقائق, فكذا تراعى قواعد المصالح والمفاسد, فلا يصلح التهور والمصادمة لهذه الأنظمة دون فقه لتلك القواعد والأصول.
والتحذير من التهوّر والطيش لا يبرر تقديس الحكام ومداهنتهم, وإن نقد الأنظمة والحكام ومحاسبتهم لا ينفك عن محاسبة أنفسنا وتقويمها, إذ هما أمران متلازمان, فكما تكونوا يُولّى عليكم, فظهور المعاصي وتنوّع الكوارث والبلايا ملازمٌ لظلم الحكام وبطشهم وكما قال ابن القيم: "قد جعل الله سبحانه أعمال البَرّ والفاجر مقضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لابد منه .. فجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين, وتعديّ القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون أن استُرحِموا, ولا يعطفون إن استُعطِفوا, وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم, فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يُظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها, فتارة بولاة جائرين .. " (زاد المعاد باختصار ٤/ ٤٦٣, ٤٦٤)
والحاصل أنه لابد من مدافعة هذا الفساد العريض لدى الراعي والرعية على وفق ما جاء به الشرع المنزّل كما قال عبد القادر الجيلاني: "نازعت أقدار الحق بالحق للحق".
ونقول في الختام كما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم أصلح من كان في صلاحه صلاح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وأهلك من كان في هلاكه صلاح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. (أخرجه ابن أبي شيبة ١٣/ ٤٦٩)