الثانية عشرة: أنّ المملكة العربية السعوديّة مع تكالب أعدائها، والضغوط التي تمارسها القوى العظمى الدوليّة عليها، وانحسار أداء الجهات الدعوية والإغاثية عمّا كانت عليه خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وظهور بعض النماذج غير الموفقة التي كانت وما زالت تستعدي علينا غيرنا، وتسعى لتشويه صورتنا؛ بالنّفخ في كلّ خطأ يقع، وتشويه كلّ خير يظهر، بل وبنشر الفساد من خلال بعض وسائل الإعلام، مع كل ذلك وغيره ما زالت أمامنا فسحة لتصحيح الوضع؛ لأنّ مقومات التصحيح موجودة، والمسلمون قاطبة تشرئب أعناقهم لكلّ حدث يقع في قبلة المسلمين، ويتألمون أشدّ الألم لكلّ ما يرونه خروجاً عن النّهج الذي قامت عليه هذه البلاد، ويشتدّ نكيرهم علينا، ولا يحقّ لنا أن نلومهم؛ لأنّ ما يؤملونه فينا ومنّا أفضل ممّا نحن عليه، وأكبر ممّا نظنّه مرض لنا، فهم لم يعرفونا ويحبونا لأنسابنا وجاهنا، ولا عقاراتنا وأرصدتنا، ولا لإبلنا وأغنامنا، ولا لمنتدياتنا وأفلامنا، وإنّما لأنّنا البلد الوحيدة التي ينادي حكامها ليل نهار أنّهم يطبقون الشريعة، ويحمون الملّة، ويخدمون الحرمين الشريفين، وينصرون قضايا المسلمين، أحبونا لما رأوا النّماذج المسلمة المشرقة منّا التي قادت الخير في كلّ موطئ قدم تطؤه، أحبونا لجائزة الملك عبد العزيز، والأمير نايف وسلمان ومحمد بن فهد للقرآن والسنة، فإذا خرجنا أمامهم بغير هذه الصورة، فلا نلم أنفسنا إذا تغير حبهم إلى كره، وإعجابهم إلى احتقار، وتعلقهم إلى نفور، قال تعالى:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} *آل عمران:١٨٢*، والعرب تقول: يداك أوكتا وفوك نفخ.
الثالثة عشرة: ظهرت قيمة حلقات تحفيظ القرآن، ومعلمي التحفيظ، وتجلت في النّفوس لما حُرم أبناؤنا منها ٨٥ يوماً، وظهر لكثير من الآباء والأمهات أنّ أبناءهم والحلقات؛ كحبّ قمح في سنبله، لا يصلح إلاّ فيه، وإن أخرج منه قبل اشتداده لم ينتفع به. وهذه حادثة من مئات غيرها لامرأة كان ابنها ذو السنوات الست في حلقة تحفيظ، وكانت أمّه تأتي به كلّ يوم عند باب المسجد، ثم تنتظره، فإذا خرج أخذته إلى بيتها، وبعد أن توقفت الحلقات، اتصلت بمشرف الحلقات تطلب منه أن يوافق على انضمام ابنها إلى الحلقة التي بقيت، فأخبرها أنّ هذه حلقة مؤقتة لطلاب الثانوية والجامعة، يقوم عليها أحد الطلاب تطوعاً بانتظار أن يعود معلمهم إليهم، ولا أستطيع إلحاق ابنك بهم لفارق السنّ، وأرى أن تعلميه في بيتك قصار السور، يقول المشرف: فهالتني إجابتها، حيث قالت: يا أستاذ، أنا حافظة وعندي إجازة في القرآن الكريم، لكن ولدي يحترم معلمه ويستجيب له أكثر مني، وينتفع به. قال: حينها ظهرت أمامي الخيرية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، وأنها تقتضي المنزلة العالية والهيبة لمن جلس يعلم الناس القرآن؛ لأنها مرتبطة بعظيم، وهو كتاب الله تعالى. قال: فاعتذرت منها، وطلبت منها أن تصبر لحين عودة الحلقات، فظلت تردد: يا رب، يا رب، يا رب، وتبكي، وأنهت المكالمة.
الرابعة عشرة: المحن تكون سبباً في صقل أفذاذ الرجال، فما أحوجنا إلى اهتبال هذه الفرصة ليتحمل شبابنا مسؤولياتهم، في زمن أصبح التواكل وعدم الاهتمام سمة بعض الشباب، ولكنّه قد ينتفض إذا رأى أنّه في وجه العاصفة. قال أحد المعلمين: لما جاء خبر إبعادنا عن الحلقات، جمعت الشباب الذين أعلمهم، ونظرت إليهم نظرة تحفيز، ووضعت يدي على أكتافهم، وقلت لهم: هذا زمنكم ... إني قد مضى زمني. فكان ذلك الموقف سبباً في تأثر الطلاب تأثراً عميقاً، وتقدم أحد الشباب وهو يسكن في بلدة تبعد عن الحلقة ٧٠ كيلو، ولسان حاله يقول: أنا لها. وقام بالمهمة خلفاً لمعلمه. فكم نحن بحاجة إلى صناعة الرجال الذين يحملون المسؤولية ويواصلون الطريق على مائدة القرآن.
العبرة الخامسة عشرة: تعودنا أنّه كلّما وقعت مسألة من مسائل ما يسمى بـ (حقوق الإنسان)، ضجّت بعض الهيئات والجمعيات الخارجية، مدّعية أنّ حقوق الإنسان تنتهك، ونحو ذلك من (شجب واستنكار)، أمّا في هذا الحدث فقد مرّ وكأنّ الأمر لا يعنيهم، ونحن لا نريد تدخلهم في جليل ولا حقير، ولا قنطار ولا قطمير، ولكنّا نظهر المكاييل المختلفة التي يعاملون بها الناس، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} *المطففين:١ - ٣*
ولا أشك أنّ العبر في هذا الحدث أضعاف ما ذكرتُ، ولم يكن القصد من المقال الحصر، ولكنه محاولة لفتح باب التأمل، واستخراج العبر، وإضافتها. والله تعالى أعلم.