للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خامس هذه المقاصد القرآنية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: النجاة من العقاب الدنيوي، فوجود الناصحين الغيورين ضمان في الدنيا من عقاب الله، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} *هود:١١٧* فكون الإنسان صالحاً في نفسه لا يكفي للنجاة من الهلاك؛ فالعقوبة إذا نزلت لم تقتصر على الظالمين فقط {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} *الأنفال:٢٥*

وفي الصحيحين لما قام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يقول: (ويل للعرب من شر قد اقترب) فقالت له أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أنهلك وفينا الصالحون؟) قال: (نعم إذا كثر الخبث).

إذا عرفت هذا، أدركت سر هذا التلازم بين (الإيمان بوجود العقوبات الإلهية) وبين (احترام شعيرة الاحتساب) فكلّ من لا يبالي بهذه الشعيرة تجد لديه إشكال عميق مع العقوبات، فالتفسير المادي للحوادث يؤدّي به إلى إنكار وجود عقوبات إلهية على المعاصي والذنوب، سواءً أنكرها بلسانه أو بحاله، وأما من يؤمن بوجود عقوبات إلهية على المعاصي والذنوب فهو يسلّم بخطر هذه المعاصي وضرورة الاحتساب عليها.

ومن المقاصد الشرعية لها أيضاً: بيان الأحكام الشرعية، فإظهار الأحكام الشرعية، وإخبار الناس بما يريد الله ويريده النبي صلى الله عليه وسلم منهم، هذا مقصد بحدّ ذاته وغاية شريفة وعمل عظيم، ولو لم يحصل عمل وقد أخذ الله الميثاق الغليظ على أهل العلم بالبيان {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} *آل عمران:١٨٧*

فالعلم بالشريعة بحدّ ذاته بركة ونور وخير، وهو سبب للعمل بها وإشاعة تطبيقها، لأجل ذلك جاءت النصوص الشرعية في الحث على العلم والتعلم والثناء على العلماء، وحين ينتشر الخطأ ويعمّ الانحراف ويسكت العلماء عن البيان بدعوى (فساد الزمان) و (عدم إمكانية التغيير) و (أنّ الفساد قادم لا محالة) أو (مجاملة لأحدٍ من الناس) فإن معنى هذا أن تسود الغربة لكثير من أحكام الشريعة.

كثيراً ما يقول بعض الناس (تخوضون معارك خاسرة مع الموسيقى-الربا-الاختلاط-البدع- .. ) وهي شائعة ظاهرة، وهب أنّ أكثر الناس لم يعملوا بهذه الأحكام، بل هبهم كلّهم تركوها، يكفي أن تبقى مفاهيم الشريعة ظاهرة بيّنة واضحة يعرفها الصغير والكبير، فهذا مقصد شرعي عظيم، وهو ضمانة لعودة الناس إلى الالتزام بها يوماً ما عاجلاً أو آجلاً، ولئن شاع مثلاً سماع الموسيقى في زماننا في أمكنة كثيرة فصار الشخص يسمعها دائماً وأبداً إلا أنّه مع هذا الظهور الكبير لها، ومع وجود أقوال وفتاوى كثيرة تبحث لها عن مخرج شرعي إلا أنك لو سألت أي أحد من الناس عن حكمها لقال لك مباشرة: هي حرام، وربما ساق لك بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من بركة البيان والتعليم الذي ينظر في أهمية بيان الحكم الشرعي أولاً وأخيراً بغضّ النظر عن تطبيق الناس أو التزامهم، قارن هذا بمن ينظر في هذا الموضوع فيرى انتشار المخالفة وابتلاء الناس فيرى أنه (لا بدّ من البحث عن رأي يوسّع على الناس ما ضاق عليهم حتى لا يقعوا في الحرج ولا يكون هذا سبباً لمزيد من انحرافهم) فيسكت عن القول بالتحريم وربما أفتاهم بالجواز أو حكى لهم القولين جميعاً، تأمل كيف سيعود الأمر في النهاية على الحكم الشرعي فينسى أو يغيب لا بسبب أن الشخص لا يرى الحكم أو يضعف أدلته بل بسبب مراعاته لحال الناس التي بسببها أضعف أصل الحكم الشرعي، وما ذاك إلا لغفلة المسلم عن مقصد البيان وضرورته.

<<  <  ج: ص:  >  >>