فهذه الاستعمالات وغيرها كثير في القرآن والسنة كلها تصب في معنى واحد، وهو أن المرتكز الذي تقوم عليه دعوة الرسل هو تعليق الناس بالله بمفهوم العبودية، وأن كل الأغراض الأخرى التي جاءت الشريعة لتحقيقها إنما هي تابعة لهذا الغرض الأصلي، فالهدف الذي يتربع على رأس الهرم في دعوة الرسل هو مفهوم العبادة.
وليس المراد من الكلام السابق اختزال دعوة الرسل في الدعوة إلى العبودية فقط، ولا اختزال مفهوم العبودية في العبادات المحضة، فلا شك أن الشريعة جاءت بالدعوة إلى أغراض أخرى تتعلق بحياة الناس وأحوالهم، فمن أغراض الشريعة ترتيب دنيا الناس، وإزالة الظلم عن المظلومين، والدعوة إلى العدل، وتقنين معاش البشر، ولكن كل تلك الأغراض متأخرة عن غرض العبودية ومنخفضة عنه في المرتبة ولا يصح أن تزاحمه أو تساويه، فلفظ العبادة يتضمن معاني ويستلزم أخرى، ومن ضروريات التأصيل الشرعي أن نفرق بين المعاني المتضمنة فنجعلها الأساس وبين المعاني المتضمنة ونجعلها التابع.
... ... ...
ومع وضوح هذا الأمر وتجليه في الظهور إلا أنه لم يسلم من المضايقات، فقد غدونا نسمع من هنا وهناك دعوات تزاحم مفهوم العبودية ومرتكز لدعوة الرسل، وقد توالت أصوات عديدة في السعي إلى ذلك، ومن تلك المزاحمات:
الأولى: مزاحمة مفهوم العبادة بالدعوة إلى فكرة الحاكمية، فقد ظهرت في أوائل عصرنا الحديث دعوة تقصد إلى إرجاع مفهوم العبودية إلى معنى السلطة والحاكمية، وتجعل جوهر دعوة الرسل يعود إلى تكريس فكرة الحاكمية، ويعد أبو الأعلى المودودي هو أول من أظهر هذه الفكرة وسعى إلى بنائها، وفي هذا المعنى يقول:(خلاصة القول: أن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة، سواء أكان يعتقدها الناس من حيث حكمها على هذا العالم حكم معينين على قوانين الطبيعة، ومن حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان، وهذا هو تصور السلطة الذي يجعله القرآن الكريم أساسا لما يأتي به من البراهين والحجج على إنكار ألوهية غير الله، وإثبات الألوهية لله تعالى)(المصطلحات الأربعة ٢٣).
وجعل ألوهية الله تعالى كلها ترجع إلى مفهوم الحاكمية على الخلق، وبالتالي فمفهوم العبودية يرجع إلى الحاكمية، وجعل العبادات إنما شرعت لتكون طريقا لتحقيق الحاكمية.
وقد تبنى سيد قطب هذه الفكرة أيضا، وفي هذا يقول:(الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية ... وهي الحاكمية ... إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا)(معالم في الطريق٩)، ويقول عن الذين خاطبهم القرآن:(كانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله بها معناه: نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله إلى الله)(معالم في الطريق٩).
بل إنه يقول:(لا إله إلا الله - كما يدركها العربي العارف بمدلول لغته - لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد لأن السلطان كله لله)(معالم في الطريق٣١)، وقد أطال سيد جدا في إرجاع مفهوم العبودية ومعنى لا إله إلا الله إلى الحاكمية.
ونحن إذا رجعنا إلى لغة العرب نجد أن الأمر مختلف تماما عما ذكروه، فالمعنى الذي يتضمنه مفهوم العبودية يرجع إلى الذل والتعظيم والحب، ولفظ الإله في اللغة يعني: من تألهه القلوب وتحبه وتعظمه، فكل تلك المعاني معاني زائدة على فكرة الحاكمية، بل إنه لا يتضمنها.