وفي إطار المستوى الأول نقول: إننا لا زلنا نسمع منهم أنه لا وجود للحرية المطلقة، وأن التزاحم يدفع باتجاه تحديد الحريات، عليه فلا اعتراض على مبدأ التحديد، وإذا جئنا للمعيار الذي تحدد الحريات على ضوءه فهو عند المشايخ يكون في الشريعة فما تحتمله الشريعة من رأي فهو مكفول، وما يصادمها فباطل مردود، فإذا كنتم لا توافقون على هذا المعيار وتفترضون معيار آخر يحد الحريات فأنتم في النهاية تحدون الحرية، فليس نصبكم عقبة الحرية كفيلا بإلغاء التحديد الشرعي إلا إذا كان كفيلا بإلغاء تحديدكم، وأنتم تقرون أنها ليست مطلقة!
أما أن تروا الحل يكمن في تنازل المشايخ عن تحديدهم للحرية مقابل أخذهم بتحديدكم فإنهم يقولون لكم:
لا فرق عندنا بين منع المحقين، وبين حصانة المبطلين، فكلاهما يضران بالمبدأ الشرعي الذي نراه حقا، فحالكم في زعمكم أن الحل في حريتكم كحال المستجير من الرمضاء بالنار، وليس الحل في أن يكون الحق الذي دلت عليه الشريعة مكفولا بإزاء الباطل الذي مع أهل الضلال، ليستويا في الميزان كبديل عن قمع الحق وإسكاته، من دون أن يكون الحل في الحق المهيمن على غيره والحاكم عليه
ومن يتحدث عن (الحق الذي لا يضره الباطل)، وعن (التدافع بين الحق والباطل)، وعن (الرأي الذي يدفع برأي) لا مكان لحديثه هنا، إذ كل هذه المقررات لم تكن كفيلة بإتاحة الأحكام الجاهلية الأخرى لتنافس الحكم بالإسلام داخل الدولة المسلمة، ولا تكفل توفير بيئة للكفار للدعوة إلى عقائدهم والصدع بشعائرهم من داخل المجتمع المسلم بزعم التدافع، وإن كنا نرددها ونمتثلها حال التعاطي مع الدول الأخرى التي لا تحكم بالإسلام، ومع الكفار الذين ينشرون عقائدهم من بلادهم، فهي عبارات جميلة تتجه لمحاسن واقع معين مفروض والتعاطي معه لا تحتمل تشريع هذا الواقع ولا تبريره كما سلفت الإشارة بذلك
أما في إطار المستوى الثاني: فإني لا أعرف أحدا من المشايخ صادر الخلاف الفقهي أو قال بعدم احترامه، ودعوتهم للحجر على أصحاب الفتاوى الشاذة لا يمكن جعلها مصادرة للخلاف الفقهي، لما يلي:
أنها متوجهة إلى الأقوال الشاذة والمفردات المرجوحة، التي استقر أمر الناس على خلافها من الآراء الأشهر أو الأقرب للدليل التي إن لم تكن حقا فليست بباطل قطعا، والتعبير بما يخالف هذه الآراء أحدث بلبلة وشوش على الناس، ولربما عاد بضعف هيبة الشريعة في نفوسهم، فسوغوا المنع هنا فقط، فآل إلى كونه منعاً ضيقاً لا منعاً للخلاف الفقهي كما يطلقون، قابل مسوغوه بين مصلحة الفرد في التعبير عن رأيه، ومصلحة الجماعة في توحيد العمل على الأرجح بعيدا عما يشوش عليهم، فقدموا مصلحة الجماعة، وهذا من جنس التنظيم الذي يقر به أرباب الحرية حال التزاحم، وليس في معنى ما وقع على المشايخ من مصادرة تعبيرهم مطلقا ومنعهم عن قول الحق إلا بإذن.
ولعلي أختم - بعد هذه الوقفة المتواضعة - بتلخيص يتمثل في:
أن ما ادعاه البعض من كون المشايخ تجرعوا ما نادوا به غير دقيق، فإن ما نادوا به من حجر - وأنا هنا أبرره لا أوافقه - لا يحتمل منع الخلاف المعتبر السائغ اجتماعيا (كيف وهم يختلفون في آرائهم الفقهية ويشهرون هذا الاختلاف؟) فضلاً عن أن يحتمل المنع من قول الحق كما هو الذي وقع عليهم.
كما أن ما يزعمه البعض من كون الحل يكمن في تشريع الحرية وضمانها بدل مناوئتها وإبطالها، هو زعم متهافت، لا يعدوا أن يكون استغلالا للأزمة، لتمرير المبدأ المخالف في تحديد الحرية تحت ستار الحل، والحل ممكن بالتحديد الشرعي للحرية الذي يتمثله المشايخ.