فالمؤمن الواثق بالله وبدعوة الله يعلم أنّ دينه وسلاحه ليس أصلاً في القصة بل هو نتيجة تسبّب بها من خرجوا عن الأمّة والواحدة أمّة التوحيد، فهو سائر على طريق أنبياء الله وخاتمهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، يقول للناس ما قال البطل ربعي بن عامر لرستم: «الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر»، هذا كلام من عقل عن الله ورسوله حقيقة القصة الكاملة.
وإذا ضيقنا الدائرة قليلاً لننظر إلى الداخل الإسلامي وجدنا ألسنة التغريب والشقاق والنفاق يرمون أهل الشريعة بالتشديد والتعسير، ويعدّون سدّ الذرائع عيباً، ويتخذون من ذلك حجة لهم في القدح في أهل العلم بالشريعة، وأنّهم حرّموا كثيراً مما أحلّه الله بسبب هواجسهم وشكوكهم ..
ولو تأمّلنا لوجدنا أنّ الذّرائع إنّما كان السبب في سدّها فشوّ المنكر وغلبة أهل الفجور في استعمال المباحات وسيلة لإشاعة المنكر، فلو تتبّع المنصف حال المجتمعات، وما آل إليه الزمان من فساد أبنائه، وتغلّب الفجرة على مقاليد الأمور في كثير من البلاد وعلى أرفع المستويات، واستغلالهم كلّ ثغرة ومناسبة لفتح باب شرّ جديد على الأمّة لعرف أنّ خوف أهل العلم وحرصهم على سدّ الذرائع هو نتيجة طبيعية وليس أصلاً، فمن رأى كيف أصبحت استقلالية المرأة في العالم أغلبِه وسيلة لفجورها واستغلالها وتحطيم الأخلاق وقيم الأسرة، لا يتوقف لحظة في تصحيح وتصويب مواقف أهل الشريعة من العلماء وطلبة العلم السلفيين الذين يمانعون من مسائل قيادة المرأة للسيارة، وتولي المناصب، وإشاعة المسرح والسينما وغيرها من مسائل يدندن حولها التغريبيون.
وإذا جئنا إلى مساحة أخرى في الداخل الإسلامي وجدنا بعض الناس يشتكون من ضيق عطن الشرعيين والعنف اللفظي في الردّ على المخالفين من التغريبيين والليبراليين، ويتبرم بعض الكبار من شدّة الشّرعيين في الردّ وعدم قبول الرأي الآخر كما قرأته مؤخراً لأحد المسؤولين في وزارة الإعلام، فتذكرت حينها المثل القائل: «قال الحائط للوتد: لِمَ تشقّني؟! فقال: سَلْ من يدقّني»!
ففي ظنّي أنّ هذه الشكوى الّتي شكا منها هذا المسؤول هي نفس الأسلوب الّذي يتعامى عن سبب المشكلة، يتعامى عن المجرم ويلوم الضحيّة؛ إذ المنطق يقول إنّه حتّى لو أساء الضحيّة التصرّف فإنّ على الحكماء أن يتبصّروا - إن أرادوا إحقاق الحق - في سبب هذا التصرف، لا التوجّه لمعاقبة الضحيّة والسكوت عمّن تسبب في خروجه عن المنطق والقانون ..
فالإقصاء الّذي تمارسه الصحف والعنف اللفظي والتهييج والتحريض الّذي يكتبه كتابها تجاه أهل الشريعة، كلّ هذا لم يره المسؤول بينما جحظت عيناه لبضعة مقالات أو فتاوى كانت مجرد ردّ فعل على ذلك الإجرام الذي مورس ضدّ المتديّنين ومؤسّساتهم.
وآخر مثال ما يرمي به كثير من الناس أهل السنة بالتشغيب وإثارة النعرات والنزاعات بين الطوائف وتفريق الصف الإسلامي حين يتكلمون بما أمرهم الله به من إنكار المنكر الفكري وتسمية أهل البدع والتحذير من باطلهم؛ فتجد كثيراً من الناس يغترّ بالدعاية الّتي يروّجها المبتدعة ضدّهم من أنّهم يفرقون الأمّة، ويميل إليهم بعض فقهاء الاستنارة الجدد مؤيّدين أو ساكتين سكوت إقرار ..
وهذا أيضاً جزء القصة الأخير، والقصة بدأت قبل ذلك حين أصرّ المبتدع أن يجاهر أو يدعو إليها بلسان حاله أو مقاله، سواء كان فرداً من فرقة مشهورة كالأشاعرة والمعتزلة أو الخوارج والمرجئة أو الشيعة أو غيرهم، أو كان رجلاً من أهل السنة لكنه اقترف مخالفة منهجية أو عقدية، فهو الذي فرق الأمّة حقيقة وليس من أنكر عليه، السلفيون الذين يتكلمون فيه ويحذّرون من بدعته يقومون بواجب شرعي، ألا وهو إنكار المنكر ..
ورحم الله أبا إسحاق الشاطبي الّذي نبّه لهذا الملحظ من قديم حين قال في الاعتصام (٩٥ص): «إن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم ... وقد حذّر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، لكن الدرك فيها على من تسبب في الخوراج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقاً، كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة؟» أ. هـ
وهذا من دقيق فقهه -رحمه الله- فالمبتدع هو الّذي أحدث الافتراق وليس من أنكر عليه، وعكس القضية هو تلاعب في سرد القصّة بالبتر أو الاجتزاء الذي يغيّر الحقائق ويصوّرها في صورة الباطل .. وهو ما نبّهنا إليه في لبّ المقال.